: آخر تحديث

دنيس ديدرو فيلسوف الأنوار والحرية

76
71
64
مواضيع ذات صلة

خلافا لمعاصريْه الكبيريْن، فولتير وروسّو ،لم يحظ دنيس ديدرو (1713-1784) بشرف أن يكون في مقبرة "البانتيون" المخصّصة لعظماء فرنسا. مع ذلك هو يبدو اليوم أكثر التصاقا منهما بقضايا عصرنا الرّاهن. كما أنه  لا يزال مَرْجعا أساسيّا لا في المجال الفلسفي فحسب، بل في العديد من المجالات الأخرى، خصوصا الرواية حيث نوّه وينوّه كبار الروائييّن يعمله ذّائع الصّيت :”جاك القدري" أمثال بورخيس، وكونديرا.  وكان ديدرو قد وصف نفسه عام 1767 وهو في الرّابعة والخمسين من عمره على النّحو التّالي  :”كانت لي في يوم واحد هيئات مختلفة بحسب ما أتأثّر به. فأنا رائق المزاج، وأنا حزين، وأنا حالم، وأنا حَنُون، وأنا متّقد العواطف، وأنا متحمّس....وكانت لي جبهة عريضة،  وعينان في غاية التيقّظ، ولي ملامح بارزة، ورأس له هيئة رأس خطيب من العصور القديمة، وطيبة قلب تلامس عن قرب السّذاجة، والبساطة التي تَسمُ الأزمنة الماضية ". وفي مَوْضع آخر تحدث عن نفسه بضمير الغائب قائلا :"لقد لقّبوه بالفيلسوف لأنّه ولد من غير طموح، ولأن له روحا نزيهة، ولأنّ الرّغبة لم تفسد أبدا اللّطافة والسّلام. بالإضافة إلى ذلك، رصينا ووقورا في هيئته، صارما في طبائعه وأخلاقه متقشّفا وبسيطا في خطابه،  كان معطف الفيلسوف القديم الشيء الوحيد تقريبا الذي يُعْوزه ذلك أنه كان فقيرا وسعيدا بفقره ". وأمّا الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعاصر، رافئيل أنتهوفن فيصف ديدرو على النّحو التّالي :”لعلّه كان مع فولتير، والماركيز دو ساد، وسقراط قبلهما،  الرّجل الأكثر حرّية في زمنه. وقد جسّد ديدرو عظمة وغرابة عصر الأنوار لأنه كان المتمرّد بآمتياز، وكان أيضا الفيلسوف الذي عرف أكثر من غيره كيف يطرح القدريّة كقضيّة للجدل"
**
ولد دنيس ديدرو عام 1713 في "بلدة "لانجرس" التي تحيط بها أسوار عالية، وتطلّ على مشاهد طبيعيّة خلاّبة سوف تسمح له مبكّرا بأن يتوحّد بنفسه للتأمل ، والتفكير، والقراءة بعيدا عن جلبة الحياة اليوميّة. وفي ما بعد سيتحدّث عن مسقط رأسه، وعن أهاليه قائلا :”سكّان البلدة التي فيها ولدتّ ونشأت يتمتّعون بالتفكير السّليم، وبالحيويّة، ولهم تقلّبات الدّوّارات الهوائيّة. وأعتقد أن ذلك عائد إلى تغيّر الطّقس الذي يمكن أن يتحوّل في الأربع والعشرين ساعة من بارد إلى حارّ، ومن الهدوء إلى العاصفة المطريّة، ومن الصّفاء إلى ظلمة المطر”.

وكان والد دنيس ديدرو يصنع السّكاكين ويبيعها. وكان رجلا صارما وقاسيا، ومُتشدّدا في تربية أطفاله. مع ذلك سوف يتحدّث ديدرو في ما بعد عن البعض من الفضائل التي ورثها عن والده. أما والدته التي توفيّت عام 1748،فتبدو سيّدة راضخة لسلطة زوجها القويّ ، الوقور. وفي عام 1728 حصل ديدرو على جائزة ترجمة الشعر اللاتيني، فكان ذلك حدثا كبيرا بالنسبة له، ولعائلته. وعندما عاد إلى البيت محمّلا بجائزته ،أجهش الوالد بالبكاء...في السّنة التّاليّة ،انتقلت العائلة لتستقرّ في باريس. وبسبب انصرافه إلى اللّهو، واستخفافه بالدراسة، قطع الوالد عن ابنه المساعدة الماديّة التي كان يتمتّع بها. لذلك سيضطرّ إلى احتراف مهن مختلفة بهدف كسب قوته. فكان معلّما للرياضيّات، وكان مترجما، وصحافيّا. وفي عام 1741، تزوّج ديدرو من امرأة جميلة تدعى آن-توانيت شومبيون،  غير أن ذلك الزّواج المتسرّع لم يَرُقْ لوالده المتمسّك بالتّقاليد فحبس ابنه في دير في مسقط رأسه ،إلاّ أنه البن العاق  تمكّن من الفرار منه :”ألقيت بنفسي من النافذة في اللّيلة الفاصلة بين الأحد والإثنين. وكان عليّ أن أقطع مسافة طويلة لكي أصل إلى محطّة العربات في "ترويس" ومن هناك انطلقت إلى باريس". وبعد أن أنجز العديد من الترجمات لأعمال قديمة في مجالات مختلفة ،اشغل ديدرو بتأليف كتاب حمل عنوان :”أفكار فلسفيّة”. وعند صدوره، أدانه البرلمان بشدّة، وقام غاضبون بتمزيقه وحرقه في السّاحات العامّة باعتباره "منافيا للدّين وللأخلاق الحميدة". مع ذلك واصل ديدرو العمل بثبات ليُتْممَ كتابا آخر سمّاه "جولة متشكّك"، وفيه أبرز موهبته العالية في المجال الروائي ،والتي سوف تتجلّى بشكل رائع في “جاك القدري”. وفي ذلك الكتاب الذي لن يصدر إلاّ عقب وفاته، هاجم ديدرو الكنيسة المسيحيّة، مُشيدا بالفلسفة المادية المتحرّرة من الأوهام، ومن الأساطير الدينيّة التي تحجب الواقع، وتعمي البصائر.

وفي عام 1747،تعرّف ديدرو  على جان جاك روسو الذي يكبره بسنة واحدة، ومعه ومع ألامبير، والمكتبيّ لوبروتون، وآخرين، شرع في إنجاز مشروع عظيم يتمثل في "الأنسكلوبيديا"،والذي سوف يستغرق منه عشرين عاما من العمل المضني، الشّبيه ب"عمل المحكوم بالأشغال الشّاقّة المؤبّدة". وكان "الأنسكلوبيديا" بمثابة مغامرة فكريّة. وقد تضمّن 3500 مقالا في مختلف مجالات معارف القرنين السادس عشر والثّامن عشر، وعلى محاضر ضبط لأعمال مفكّري وفلاسفة عصر الأنوار. وعندما تخلّى صديقه ألامبير عن العمل معه، واصل ديدرو الإنشغال ب "الأنسكلوبيديا"وحيدا، وفي شبه سريّة خشية تهديدات السّّلطات السياسيّة والدينيّة. وفي مؤّلّفه "رسالة حول العميان" الذي أصدره مطلع صيف 1749، دافع ديدرو عن فلسقته الماديّة مجاهرا بالحاده :”ليس مهمّا على الإطلاق أن نؤمن باللّه أو لا نؤمن به. الملاحدة يقولون أن كلّ شيء ضرورة، وبحسبهم إذا ما ألحق بهم أحد أذى فإنّه لا يفعل ذلك بحريّة أكثر من آجرّة تنفصل عن الجدار، وتسقط على رؤوسهم .غير أنهم لا يخلطون أبدا الأسباب ببعضها البعض. ولا تغيظهم أبدا إساءة ألأجرّة" . وبسبب كتاب"رسائل حول العميان"، قامت الشّرطة باقتحام شقّة ديدرو لتفتيشها، ثم قادته إلى السّجن ليظلّ فيه حتى شهر نوفمير من العلم المذكور. وبعد اطلاق سراحه، أصدر كتابا آخر بعنوان "رسالة حول البكم والصّم”. وبفور   اطلاعها  على مؤلّفاته، وعلى أجزاء من "الأنسكلوبيديا" ،قرّرت كاترين الثّانية، ملكة روسيا ،شراء مكتبة ديدرو مُخَصّصَة  له راتبا شهريّا ، ثمّ دعته لزيارة سانت -بطرسبورغ، ففعل ذلك عام1773.وكانت تلك أوّل رحلة يقوم بها خارج فرنسا إذ أنه ،خلافا لفولتير وروسو، كان يمقت الأسفار .ومرّة كتب يقول :”الانسان الميّال إلى التّفكير والتأمّل حضريّ بطبعه. أمّا المترحّل فجاهل وكذّاب". وفي كتابات أخرى أشار ديدرو إلى أنّ الفلاسفة البورجوازيّين يحتقرون "هذا الرّهط من المترحّلين المتوحّشين، وهؤلاء الذين يجوبون أصقاعا كثيرة وينتهون بعدم الانتساب إلى أيّ أحد منها، والذين يضاجعون نساء في الأمكنة التي يعبرونها ولا هدف لهم من ذلك غير إرضاء حاجاتهم الحيوانيّة".

وفي طريقه إلى سانت-بطرسبورغ ، مرّ ديدرو بهولندا حيث زار المتاحف في لاهاي، والتقى بمفكّرين كانوا يكنّون له تقديرا كبيرا. كما مرّ بديسولدورف، ولايبتزيخ، ودرسن. وعند وصوله إلى موسكو كان "شبه ميّت" من الإرهاق والتّعب. وقد خصّته كاترين الثّانية باستقبال بديع. وفي كلّ يوم كانت تختلي به في قصرها الفخم لتتبادل معه الحديث حول قضايا فلسفيّة وسياسيّة كانت تشغل بالها. وكانت تعامله بودّ كبير.

ومرّة قالت لأحد المرافقين له:"ديدروكم هذا شخص خارق للعادة ...وأنا لا أنهي حوارا معه إلاّ وأكون قد أحسست بأن ساقيّ اتفختا واسودّتا من فرط الارهاق". وأمام طلبة وأساتذة أكاديميّة العلوم،  تحدّث ديدرو عن سيبيريا ليكشف لمستمعيه سَعَة اطّلاعه، بل أنه سعى إلى تعلّم اللّغة الرّوسيّة. وقبل أن يعود إلى باريس، أمضى ديدرو نصف سنة في هولّّندا. ومن وحي إقامته في ذلك البلد الذي أحبّه كثيرا ،ألّف كتابا سمّاه "رحلة إلى هولندا". وبعد أن تجاوز سنّ الستيّن، كتب ديدرو رسالة إلى أخته ليصف لها حالته الصّحيّة على النحو التّالي:”أنا في صحّة جيّدة إلى حدّ مّا، غير أنّي بدأت أشعر بوهن الشّيخوخة. كلّ أسناني ترتجّ . وعليّ أن أتناول دائما الحساء مثل الأطفال(...)ودائما تتصلّب أذني، وتتعتّم عيناي. الجزء الأكبر منّي يتلاشى،

ويضمحلّ. وأنا أرى هذه الاستعدادات للرحلة الطويلة تتمّ من دون أن أنشغل بذلك كثيرا. أنصح الأشرار بأن يكونوا جزعين وقلقين. وبالنسبة للأغبياء والحمقى النّزهاء أمثالي سيقال لهم بأنهم حمقى وأغبياء ،ثمّ لا شيء”." وفي اليوم الأخير من شهر تمّوز -يوليو 1784 توفيّ ديدرو بسكتة دماغيّة. وواصفا جنازته، كتب زوج ابنته يقول :كان موكب الجنازة مهيبا، والذين رافقوه الى مثواه الأخير كانوا كثيرين. وأنا فخور بأن السلطات الدينيّة من أعلى مستوى وحتّى المرشد في المرتبة الدنيا كانوا في الجنازة. وأعتقد أن الأهل في "لانجرس" سيكونون سعداء ، بل وراضين عن ذلك أيضا"    


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي