العنف المنزلي والمشاحنات الأسرية تحت سقف البيت الواحد تزداد حدة في عصر الكورونا. النكتة المنتشرة الساخرة تعكس في صميمها مأزق الكثير من العلاقات الأسرية. فجأة انقطعت الصلة والتواصل مع الخارج إلا في الحد الأدنى وبقيت المرأة قبالة الرجل والاولاد أيضا، وظهر الخلل في المحادثة وصيغة الحوار. لعله الان الوقت الأنسب لمراجعة صيغة التعامل وتقسيم الادوار في البيت ومن يملك مفاتيح المملكة الصغيرة. بالتأكيد ليس حكمة أن تتشاجر مع أفراد اسرتك وتهدد بالطلاق وتلجأ الى العنف المنزلي بصيغته الكلامية، الشتائم والتقليل من شأن المرأة أو الرجل، ثم التعنيف الجسدي والضرب والاهانات لما لها من تأثير سلبي على الأولاد وعلى العلاقة الزوجية . المأزق أن لا مكان للخروج للتنفيس عن الرغبات والشهوات كما السابق، سواء المبطنة والمسروقة أو الترفيهية المعتادة، كالخروج الى المقاهي والطبيعة وزيارة الأحبة والاقارب. اعط لنفسك الوقت لترميم بيتك وصلب علاقاتك بمن حولك. لقد أجبرنا فايروس كورونا على مواجهة الاخر 24 ساعة في اليوم، ولنا أن نجعل اليوم معركة، اضافة الى الخوف من هذا الموت المجهول الذي يترقب الجميع ويحاصر المعمورة في صيغة فايروس قاتل. نعم، قد تكون حياتك الزوجية مأساة في الأساس ولكن ليس الان وقت الطلاق والتعنيف وصب الزيت على النار. هناك باب للمعرفة والبحث وهناك حلول.
العودة الى كتاب هارييت ليرنر و"رقص الغصب"
The Dance of Anger by: Harriet Lerner
كتابان أشير إليهما هنا كمراجع للعلاقة الخاصة والعامة. الاول بعنوان" رقص الغضب" للدكتورة هارييت ليرنر الذي صدر منذ عقود بالانكليزية وبيعت منه ملايين النسخ. هذا الكتاب للمرأة كما للرجل، اذ يبحث في طبيعة العلاقة والغضب الذي يشعر به الافراد والازواج. وتشير الباحثة إلى ان الغضب شعور يجب احترامه والاستماع إليه لأنه اشارة الى معاناة ما وله أسباب أبعد يجب الحفر فيها. سابقا ولاحقا، اعتادت المرأة أن تصمت وتقوم بالدور المناط بها، ثم جاء الوقت كي تتكلم ومع ذلك لا تجد الصيغة الأمثل للتعبير عن مشاعرها وأفكارها. وهنا يدخل النسق الاجتماعي والتقسيم الجندري والاقتصادي في لعب الدور الكبير في تخريب شبكة العلاقات التي من المفترض أن تقوم على العدل والمساواة والاحترام المتبادل فيما يخص الحقوق والواجبات. يستطيع القارئ او القارئة البحث عن الكتاب في الشبكة الالكترونية والاستماع اليه صوتيا.
***
فن المحادثة للمؤرخ ثيودور زيلدين
The Art of Conversation, by Theodore Zeldin
يعتبر ثيودور زيلدين من أهم مائة مفكر في العالم، ومن أهم أربعين شخصية في القرن العشرين. شهرته في أمريكا واسعة وخاصة بعد صدور كتبه التي بدراسة جوهر التاريخ الإنساني، حيث يحاضر ويسلط الضوء على تاريخ البشرية من خلال عمق المشاعر والعلاقات الشخصية.
في هذا الكتاب عن المحادثة ودورها في إحداث تغيير في حياتنا، الغني بمعلوماته أفكاراً وتجارب، يأخذنا المفكر الإنكليزي البروفيسور ثيودور زيلدين في جولة ممتعة وعميقة لنستكشف تغيرات مسار المحادثة في يومنا الراهن ومع دخول التكنولوجيا والكمبيوتر في حياة الأفراد والمجتمعات. كما يطلعنا على أثر المحادثة على موضوع العشق والعلاقات من خلال صيغة الحديث بين العشاق في العصور الوسطى، وبالعودة إلى استشهادات وأسلوب المخاطبة في القصص والروايات والقصائد العالمية المحفوظة في الأرشيف.
يقسم الكتاب إلى ستة فصول على النحور التالي: 1- كيف يتغير موضوع الحديث في كل حقبة. 2- حديث العشق، لماذا بدأ يتجه في مسار جديد. 3- ما الذي ينقذ الحديث العائلي من السقوط في الملل والرتابة. 4- المحادثة في مكان العمل: لماذا يتوجب على الإخصائيين أن يجدوا طريقة جديدة في الكلام. 5- ماالذي تستطيع التكنولوجيا أن تفعله بالمحادثة. 6- كيف تشجع المحادثة على التقاء العقول.
"جيد أن نتكلم" مقولة كانت رائجة ولكن من الأفضل أن نتحدث ونتبادل وجهات النظر والخبرات ليكون للوقت متعة واكتشاف واكتساب معرفة. فالمحادثة ترتقي إلى مصافي الفن، والعيش المشترك فن ينتعش ويثمر بالحديث، حسن الاستماع والتكلم بأسلوب يصيب الهدف دون أن يجرح الطرف الآخر، أو يجرده من اعتباره الذاتي. العيش والتواصل لايقتصر على العلاقة بين المرأة والرجل في العائلة، بل يتعداه إلى العلاقة مابين الوالدين والأولاد، ومابين العائلة والجيران، ومابين الفرد ومحيط العمل وشبكة العلاقات الرسمية والحميمة، ويتعداه إلى صيغ مختلفة من التواصل تحصل بدءا من الخروج من البيت مشيا على الأقدام، في سيارة، في باص، دراجة، مترو، طائرة... هذه الشبكات تفرض نمطا من العلاقات ولها ابعادها الصحية النفسية والإجتماعية المتغيرة من عصر إلى آخر، ومن عقد إلى آخر، ومن بلد إلى آخر.
في هذه الحقبة الفايروسية من المهم ان نتكلم في البيت ونجد صيغة جديدة للتعايش السلمي والارتقاء ببناء روح الفرد في الاسرة مع كل الضغوط والاملاءات التي يفرضها الخارج على البيوت كلها. ليس غريباً أن نجد وفق ماورد في هذا الكتاب بأن نسبة الطلاق في الأسر الأمريكية والإنكليزية يعود 50% منها إلى حنق المرأة وغضبها من زوجها أو شريكها الذي لا يتلكم، ولا يشبع رغباتها في سماع الكلمة المناسبة في الوقت الضروري. فكيف لو اسقطنا البحث عن نسبة الطلاق واسبابه في الشرق!
من المهم ان نسأل انفسنا اليوم: ماذا فعلنا بحياتنا، بعلاقاتنا العامة والخاصة، وكيف نكتشف حيزا باطنيا هو بذرة التحقق الذاتي والشعور بالقيمة الشخصية والاحترام.
فن المحادثة والعلاقة بين الاولاد والوالدين:
في فصل آخر من الكتاب يخوض "ثيودورزيلدين" في العلاقة بين الأولاد والوالدين. يستشهد بشكوى شاب من أسرته إذ يشعر بأنه مغلوب ومقهور حين يجري أي حديث بينه وبين والديه، فهو يشعر بأنه أقل ثقافة وفهماً. رغم أن الأم محامية ومستشارة اخصائية وتفتقد هي أيضا المحادثة الحميمة مع أسرتها.
هذا الفشل في التواصل الأسري اليوم قد يكون مرده وجود وسائل الترفيه في البيت كالتلفزيون الذي يقتل التواصل، الكمبيوتر والألعاب الأخرى التي تغزو البيوت والعقول بسرعة رهيبة. وهذا لايجعلنا ننسى بأن الآباء في تلك الحقب الماضية كانوا يذهبون إلى المقهى للحديث مع رفاقهم والتسلية معهم، ويعودون إلى البيت كي يصمتوا، كي يأكلوا، كي يناموا، ويصنعوا أطفالاً. كما يشدد على أهمية المائدة والطعام كأسرة ومايدور من أحاديث بين الأولاد والاهل. وقت الاكل فرصة لمعرفة انفعالات الاخر، الغضب، الامتعاض، الكراهية والحب الذي في يحوم في دواخل الاخر.
للغضب مبررات وللحب نوافذ وأبواب
ليس ترفا البحث في شبكة العلاقات الاجتماعية والاسرية بل هو الركيزة الاولى التي يقوم عليها البيت والبلد والكون في النهاية لأننا جميعا خلايا في اطار شبكة معقدة ومحبوكة بغرابة ومجاهيل كثيرة.
يقول الباحث زولدين"انا متعلق بالنظر في كيفية تحسين الحياة التي نعيشها. الذي نفتقده في هذا العالم هو الاحساس بالجهات، وإلى أين نحن ذاهبون لأننا جميعا مثقلون بالنزعات المحيطة بنا، وكأننا نسير في غابة لا نهاية لها. أود لو أرى أحداً ما قد بدأ تلك المحادثة التي توجّه العتمة، تحقق المساواة، تعطينا اندفاعا، تمكننا من الانفتاح على الغرباء، تمكننا من ملاحظة أهمية أشغالنا، فلا نعود بعدها منعزلين ضمن اختصاصاتنا. لانستطيع أن نعيد انتاج "النهضة" ثانية، والتاريخ لايعيد نفسه، ولكن بإمكاننا أن نبدع شيئا مثيلاً لذلك، ويناسبنا. وهذا ما أسميه المحادثة الجديدة"
بالمحصلة أقول، هذه المحادثات تبدأ بالافراد ثم بالمؤتمرات الكبرى لقيادات عالمية دينية او سياسية ثم بالاعلام في كل بلد. ولكل منا دوره وتخصصه الذي يستطيع ـأن يلعبه قبل فوات الاوان ومن أجل بناء الأسرة والمجتمع. إعادة التعرف على الزوجة والزوج في هذه الآونة، خير من الطلاق والضرب والإهانة. الحديث مع الأخر سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال المرئي والمسموع، يجب أن إيجابيا، داعما ومحرضا على العطاء والمؤازرة النفسية والوجدانية والعاطفية.
للغضب أسباب ومبررات، وللحب نوافذ وأبواب واسعة حين نتعلم كيف نستخدم اللسان والقلب والعقل في التواصل والتعبير والمحادثة. ضع في حسابك أن الشريك(ة) يعرف الى حد كبير(هو-هي) ما في رأسك والموبايل وما يجري في الغرفة الأخرى عبر الشبكة الالكترونية. كن صادقا مع نفسك وابدأ الحديث مع ذاتك إذا استطعت.

