يبدو أن بعض نظم الحكم الغربية - في نظر كثير من المحللين – تسير نحو الشعبوية لخلق منظومة تتناقص علي طول الخط مع ارتضاه العالم الديموقراطي من قيم وآليات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .. منظومة يمينية تتخذ في كل تواصل لها مع المجتمع مباشر او عبر وسائط أخري ، خطاب يعمل في الأساس الأول علي ترسيخ أقدام الخطاب الذي يُحرض علي الإنعزالية والتشدد والإنغلاق ..
هل فقدت مقومات وقيم النظم الديموقراطية التى سادت في الغرب تأثيرها وهبطت من قمة السلم إلي إسفله ؟؟ .. هل فقدت العولمة بريقها حتى لدي النظام الأمريكي التى ابتدعها وروج لها في كل أنحاء العالم ؟؟ هل ستخضع نظم الحكم الغربية لهمينة زعامات سياسية لا تعرف من أدوات إدارة شئون الدول إلا تعميق الإنقسام ونتهازية الفرص ؟؟ ..
المجتمع الدولي لا يعيش لحظة متشائمة ولا متفائلة ..
لكنه بشرقة وغربه يعاني من فقدان بوصلة " الغد " في أعقاب إنتهاء صخب الإحتفال بتنصيب دونالد ترامب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية ، الذي حرص ضمن خطابه التعبوي علي إبداء الكثير من التشدد الذي ينذر بالتركيز علي القومية من ناحية واهمال شأن قيم الليبرالية من ناحية ثانية ..
الرئيس الأمريكي لا يري الآخر " غير الأمريكي " لأن الهوية الوطنية التى تمثل هاجسه الأول ، تُبني عنده علي عدم تساوي الآخر مع أصحاب هذه الهوية .. لذلك لابد من الإنغلاق والتحفيز علي الإهتمام بالشأن الداخلي سواء في ميادين الإقتصاد أو دروب السياسة ..
في الأولي أمر فعلاً في إعادة النظر بهدف أعادة التفاوض حول الإتفاقيات التجارية مثل " النافتا " و " منظمة التجارة العالمية " ، وفي الثانية بدأ بتشجيع بريطانيا علي إستكمال خطوات خروجها من الإتحاد الأوربي وأظهر عدم إكتراث بما تقوم به روسيا من تثبيت لأقدامها " اكثر واكثر " في منطقة الشرق الاوسط ..
الحلفاء الذين توثقت صلتهم بواشنطن علي إمتداد الستة عقود الأخيرة ، لم يُظهر ترامب الإهتمام الواجب بهم ، بل واصل هجومه العنيف ضد هؤلاء الذين وصفهم ضمن حملته الإنتخابية بأنهم إستفادوا من قوة واشنطن ونفوذها وثرواتها وقواتها المسلحة ، وكرر مرة أخري أنه قد آن الأوان أن يشاركوا في تحمل فاتورة الأعباء التى كانت تتحملها الميزانية الفيدرالية الأمريكية بمفردها ..
هل لا يدرك الرئيس الأمريكي الخامس والاربعين أن تخلي إدارته عن هؤلاء الحلفاء سيدفع منافسوها إلي شغل الفراغ الذي ستتركه ورائها هنا وهناك ؟؟ ..
الإنفكاء علي الداخل الذي يسعي ترامب إلي تكريسه عبر مجموعة القرارت التنفيذية التى قام بتوقيعها منذ يوم الإثنين الماضي – 23 يناير - سواء ما يرتبط منها بالإنسحاب من معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادي أو إجتماعه مع المديرين التننفيذين لكبري الشركات الأمريكية في ميدان صناعة السيارات ، يمثل عند العديد من المراقبين بوصلة توجهه علي الاقل خلال المائة يوم الأولي من عمر رئاسته الحالية .. فمن ناحية هدد بفرض ضرائب باهظة علي كل شركة تواصل تصينع منتجاتها خارد البلاد ووعد من ناحية أخري بتقليص القواعد التنظيمية والضرائبية التي تعوق عودتهم إذا هم بدأوا عملياً الإهتمام بالسوق المحلية علي مستوي خلق الوظائف وتنويع السلع المصنعة محلياً ..
هذه الرؤية الانغلاقية زادت من تعنت الرئيس الأمريكي تجاه وسائل الإعلام ..
خلال فترة الحملة الانتخابية كان يسعده جداً أن يوصف بأنه المرشح القادم من " عالم غير مؤسساتي " وكان يزيده غروواً أن يُقال عنه أنه لا يمت للنخبة الأمريكية السياسية بصلة .. وبعد فوزه أحتلت اخباره مقدمة كافة البرامج الاخبارية والسياسية والتحليلية وحتى الفكاهية دون ان يسعي إليها ..
اليوم يقال انه يمثل الشخصية الأمريكية " الرافضة " للحزبين الكبيرين ولمؤسسات الدولة .. التى تتمتع بـ " البراجماتية " المنطوية علي الداخل والتي تعتنق مبدأ " المباشرة " في توصيفها للمشكلات والقضايا بشكل لم يكن معتاداً ..
ومن هنا الانقسام حول شخصيته إعلاميا وسياسيا حتي علي مستوي الحزب الجمهوري .. ومجتمعيا حول ما كيف صعد ولماذا فاز ؟؟ وكل جماعة بما لديها من تحليلات علي قناعة انها علي حق ..
كان الإنقسام موجود قبل ترشح ترامب للإنتخابات الرئاسية ، ولكنه إزداد عمقاً وإتساعاً بسببه وربما بسبب النظام الإنتخابي الأمريكي !! يقول هو انه يسعي لتوحيد الصف الأمريكي ، ويتساءل كبار السياسيين والاكاديميين .. هل في المكان وضع قواعد جديدة لأنتخاب رئيس الجمهورية ، ام ان ذلك سيكون متعارضاً مع النصوص الدستورية التى لم تمس منذ سنوات طوال ؟؟ ..
نقول ذلك لأن الإنقسام والخلاف دائماً ما يكونا متلازمين في مثل هذه الأمور التى لا يتصف بها المجتمع الأمريكي وحده بل كافة المجتمعات الديموقراطية وغير الديموقراطية ، لكن الملاحظ أن صعود ترامب رئيساً لأكبر دولة في العالم يبرهن علي أن مسألة الإنقسام ليس حول إختيار سياسي ، بل هي نتاج لواقع مأزوم يعيشه النظام ومؤسساته ومواطنيه ، وتعبير عن عيوب بدأت تصيب في آلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في مقتل ..
يقول قائل ..
بين القول الرئاسي والتساءل السياسي / الأكاديمي فجوة عميقة .. والتضاد بينهما يعطي الرئيس الفرصة كاملة لكي يعمق من شعبويته ويفسح لها المجال لكي تقوي وتترسخ بشكل متتالي وتدريجي ، بينما الإجابة علي ما يطرحه السياسيون والاكاديميون من إستفسار قد تجتاج لفترة من الزمن ..
وبغض النظر عن هذه وتلك يؤكد البعض الآخر أن ..
- الخلل في النسق الديموقراطي نفسه يعود في المقام الأول إلي البنية الأمريكية السياسية التى سمحت لمرشح بلا تاريخ سياسي او تنفيذي .. رأسمالي من قمة رأسه إلي إخمص قدمه .. تصوراته السياسية والإقتصادية فردية بجدارة .. خطابة ينضح باليمينية العنصرية غير المتصالحة إلا مع نفسها .. متباعد عن الأخرين المخالفون له في الرأي سياسياً والمتقاطعون معه إقتصاديا .. المعادي للمرأة وللمهاجرون .. الكاره للمسلمون ودينهم .. أن يجلس في هذه اللحظة خلف مكتبه بالبيت الأبيض ..
- تعقيدات مثالب الديموقراطية وأثارها السلبية واعراضها الجانبية التى يعاني منها المواطن الغربي كل يوم منذ عقدين علي الأقل ، يمكن أن تفرز وقائع سياسية وإقتصادية وإعلامية ومجتمعية تدفع بالناخب لأختيار رئيس أمريكي بلا مؤهلات تتوائم مع احتياجات المنصب أو تمنح ثقتها لمن ليس هو الأجدر به ..
من ناحيتي اختلف مع هذه النقاط إلي حد كبير .. لأن ..
- العملية السياسية في أمريكا لا تدار من داخل البيت الأبيض وفق هوي ساكنه
- العقل السياسي خارج جدران المكتب البيضاوي اقوي واوسع منه داخله
- المراكز البحثية والمواقع الدارسية لن تتوقف عن العمل والانتاج والحوار والطرح لأنها ليست علي هوي الرئيس
- الأجهزة الحكومية ومؤسسات الدولة وجماعات الضغط المالية والسياسية لن ترضي أن تُهمش أي منها لصالح أي طرف
جميعها تشارك بقدر معترف به في رسم سياسات الدولة العليا وفق ترتيبات من التعاون الوثيق بينها من ناحية وبين رئيس الدولة وإدارته من ناحية أخري .. هي تدرس وتخطط وتبحث عن البدائل وتقدم المقترحات الآنية والمستقبلية ، وهو يتخير منها بمعاونة مستشاريه وكبار معاونية ما يحقق أهدف الإستراتيجيات الأمريكية المتوسطة وطويلة الأمد .. في ظل رقابة المؤسسات التشريعية والقضائية ..
كافة هذه الدوائر متداخلة بشكل يصعب تفكيكيه علي يد الرئيس ترامب ، ومتنافسة في نفس الوقت من أجل الصالح العام الأمريكي الداخلي والخارجي بشكل يصعب الإستغناء عن إي منها والإكتفاء بالآخرين ..
الأمر الذي لا خلاف عليه أن المائة يوم الأولي ستكون الحكم العملي علي ما سيُقدم عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب .. وساعتها سنري معا هل النصر للشعبوية او للأصول والقيم الديموقراطية ..