خلق الله الناس على الفطرة، فقال تعالى شأنه" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
في البدء لم يكن أكثر الناس يعلمون، لذلك عبدوا الأشجار والأحجار ومجدوا النار وخلقوا بأيديهم آلهة من الأصنام، وجعلوها لله أندادا،لأنهم بالفطرة وجدوا بأن هذا الخلق العظيم لابد أن يكون له خالق عظيم.. وتيقنوا بأن الأشياء من حولهم لم يأت من باطل، وتصوروا أنه لابد أن تكون هناك قوة عظمى خلقت تلك الأشياء. حاروا كما حار سيدنا إبراهيم حين جن عليه الليل " رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي"، ثم "رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي"، وحين" رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ". جلهم إعتبروا الكواكب والنجوم إلها، وصدق فيهم قول الشاعر الباكستاني الأكبرمحمد إقبال"عبدوا الكواكب و النجوم جهالة،لم يبلغوا من هديها أنوارا"..
من هنا نجد بأن الإنسان منذ بدء الخليقة كان يبحث عن الله، لأنه حينما جال بنظره ورأى العجائب من حوله، وجد بأنه لابد أن تكون هناك قوة أكبر منه، قوة أسمى قد خلقت تلك الأشياء، وظنوا بأنه لابد أن يكون مكان هذا الخالق العظيم في السماء العليا ولذلك رفعوه الى مقام العليين، فإتجه بعضهم نحو عبادة النجوم، وآخرون الى الأشياء الكبيرة أو العالية مثل الأشجار والعواصف والبرق..ثم إهتدوا الى فكرة تجسيد هذا الإله بتماثيل ليكون في متناول أيديهم حينما يحتاجون إليه،" وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ". الزمر (3).نحتوا تلك الأصنام وقدموا لها القرابين والتضحيات لإرضاء الإله وكف غضبه عنهم.
إذن، حتى الأوائل ممن عبدوا النجوم والظواهر الطبيعية كانوا يؤمنون بالفطرة بوجود الله، وكانوا يعتقدون إعتقادا راسخا بأن هذا الإله هو كبير وعظيم وأن لامكان يستوعبه سوى السماء الواسعة، ولذلك كل الناس في كل الأديان حين ترفع دعائها، ترفعه الى الأعلى" السماء" بإعتبارها مكان الإله.هي،(فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا)، فالإنسان الأول بفطرته كان يعتقد بوجود الله،لكنه لم يهتد بعد الى ما يريده الله من عباده، ولذلك أرسل الله الرسل والأنبياء ليهدوا الناس الى الفرائض والى التوحيد، وكانوا كما قال فيهم أمير الشعراء شوقي ببرديته يخاطب الرسول الأعظم " أَتَيـتَ وَالنـاسُ فَوضـــى لا تَمُـرُّ بِهِـم..إِلّا عَلـــــى صَنَـمٍ قَـد هـامَ فـي صَنَـمِ"..لقد كانوا في حاجة الى الإطمئنان" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" فببعث الرسل إطمأنت القلوب ودخل الناس في دين الله..
أنا عن نفسي أٌقول بأنه حتى لو لم أتلق كلمات ربي بكتاب منقول على لسان الرسول، كنت سأؤمن بوجود الله بعقلي تصديقا لقوله تعالى" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" لقد جلت بنظري في الآفاق وعملت عقلي فوجدت الله، ولو لم ينزل الله سوى آية الكرسي لوحدها لعرفت الله تمام المعرفة بتلك الآية الكريمة..
قال تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ".يأمرنا الله بأن يكون الدين له وحده،لا ينازعه فيه أحد،ولا ينيب عن نفسه أحدا.فالعبادة خالصة لله ولا يشرك بملكه أحدا حتى من الأنبياء والرسل." قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ " فصلت..
من هنا نستنتج بأن الدين هو في المحصلة لله وحده، ولا يستطيع مخلوق أن يدعي غير ذلك، فمن يتعبد لله بالدين لا حجاب ولا واسطة بينه وبين خالقه،ولا يحتاج الإنسان الى أحد بعد أن أبلغ الرسل والأنبياء رسالات ربهم وإنتهوا." قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ". الأحقاف.فلا حاجة للإنسان المؤمن بالله الى الأصنام والأشياء أو الى إنسان مثله لكي يقربه الى الله زلفى، فلا حجاب ولا مسافات بينه وبين ربه، " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ".
في البدء جاء الرسول الاعظم محمد عليه الصلاة والسلام برسالة ربه الى قومه من العرب، وكانت الرسالة هي الدعوة الى الدين الجديد،ومضت فترة طويلة من النضال السري من أجل الدعوة عانى خلالها المسلمون أشد العذاب حتى أضطروا الى مغادرة مكة نحو المدينة وهناك تحول الإسلام الى دين عالمي، ومنها إنطلقت الدعوة العالمية للإسلام.
لم يكن هدف الدعوة إقامة دولة إسلامية بقدر ما كان الهدف الأساسي منها هو إحياء دين الله وتعميمه على وجه الأرض، فلم يدر بخلد النبي وهو يدعو الى دين الإسلام والتوحيد،أن يؤسس لدولة على غرار الدول والأمبراطوريات المحيطة بجزيرة العرب، فلو كان يريد ذلك ليسره الله له وعلمه كيف يبني أسس دولته الجديدة، خاصة وأن جميع من كانوا في الجزيرة وماحولها قد خضعوا للدين الجديد وأبدوا لمحمد الطاعة بإعتباره رسولا من الله.وحين عرضت قريش عليه الملك رفض بإباء، وقال قولته الشهيرة" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته". لو كان الرسول يطمع بالملك وقيادة الدولة،لكان رضي بعرض قريش ولأصبح ملكا للعرب.وكانت أمامه تجارب كثيرة لدول وإمبراطوريات أقيمت في الجوار بإمكانه أن يستفيد منها حيث كانت هناك وفود تجارية تأتي من أقطار الأرض الى مكة والمدينة، وكان بإمكان الرسول أن يستغلهم للتعرف على تجارب حكمهم ويبني دولة قوية على غرار الأمم والشعوب التي كانت لها دولها المستقلة آنذاك.وكان لزاما على النبي أن يعلم أصحابه كيفية إدارة شؤون الدولة كما علمهم كيفية أداء الصلاة.. وكان النبي أولى من صاحبه عمر بن الخطاب بتأسيس الدواوين،وأولى من عبدالملك بن مروان في سك النقود وتحرير الإقتصاد بإصدار الدينار العربي. وكان واجبا عليه كرئيس للدولة أن يتخذ له نائبا يتسلم مقادير السلطة في الدولة من بعده..عجبي ممن يؤمنون بالله ورسوله ويدعون الإسلام كيف يحدثون بدعة الدولة الإسلامية والملك المتوارث والإمبراطورية العالمية،ورسولهم قد نأى بنفسه عن ذلك؟!.
دعا الرسول الى دين الله وليس الى دولة الله على الأرض،وتوفي وهو لم يحدث بدعة الدولة الإسلامية، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده..فكل الحروب التي خاضها الخلفاء الراشدون لم تكن من أجل توسيع رقعة دولة، لأنها لم تكن موجودة بالأصل،بل كان هدفهم هو إدخال الناس في دين الله، والغنائم التي تأتي من هذه الحروب كانت توزع على الناس وفقا لما شرعه الله من حق للمقاتلين. فلو كانت هناك دولة لكان الأحرى بالخلفاء أن يدخروا تلك الأموال وينشئوا لها ديوانا خاصا، ثم يؤسسوا دواوين أخرى لإدارة شؤون الدولة.لكنهم تركوا ذلك ودعوا الى الدين والعمل بشرائع الله وتنظيم شؤونهم وفقا لما جاء بكتاب الله، ولم تكن شؤون الناس في تلك الفترة كما هي شؤونهم اليوم، لذلك كانت أحكام الله وشرائعه كافية لإدارة شؤون المجتمع بتلك الفترة وقضاء حاجاتهم اليومية..