العقبة الكبرى أمام العمل الشيوعي اليوم هي إمتناع الأحزاب الشيوعية عن البحث في أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي الأمر الذي يدعو إلى الإشتباه في شيوعية هؤلاء الشيوعيين ويشير إلى نوعية الشيوعيين الذين انهار المعسكر الإشتراكي على أيديهم . شيوعيون خاضوا النضال الصعب خلال قرن طويل وقدموا ملايين الضحايا في حروب لم تتوقف في إعلاء ثورتهم الإشتراكية ثم فجأة تنطفئ تماماً ثلك الثورة بعد أن امتلكت كل مفاتيح العالم، ويرفضون بالتالي البحث في أسباب خسارتهم لتلك الثورة التي كلفتهم غالياً وغالياً جداً !! لا يمكن تفكيك مثل هذا الطلسم سوى الخلوص إلى أن هؤلاء الشيوعيين الذين يرفضون البحث في أسباب انهيار الثورة هم أنفسهم الذين تسببوا بانهيارها، ولذلك فإن أي بحث جدي في أسباب الانهيار سيدمغهم بالخيانة .
الدرس الأول الذي يعلمناه ماركس هو أن الصراع الطبقي هو التفسير الوحيد للتاريخ . وعليه، لا يجوز أن بُفسر انهيار الثورة الإشتراكية بغير الصراع الطبقي . بعد العام 1921 لم يبق في المجتمع السوفياتي سوى طبقتين، طبقة البروليتاريا وطبقة البورجوازية الوضيعة التي تضم موظفي الإدارة والجيش والفلاحين . البورجوازية الوضيعة أشد كراهية للبروليتاريا من الرأسماليين . وفي هذا السياق نعود إلى لينين الذي كتب في كتابه "الضريبة العينية" في العام 1921 يقول .. "يتوجب علينا أن نفضح ضلالة أولئك الذين يعجزون عن إدراك الدور الإقتصادي للبورجوازية الوضيعة التي هي العدو الرئيسي – يؤكد الرئيسي – للإشتراكية في بلادنا". ما رآه لينين واجباً على الشيوعيين هو اليوم بعد قرن طويل الواجب الأول والأخير للشيوعيين. من إنقلب على الاشتراكية في الخممسينيات هو البورجوازية الوضيعة السوفياتية وليس غيرها . كنت أكدت لنائب الأمين العام للحزب الشيوعي في العام 1965 أن العصابة في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي هم أعداء الشيوعية وليسوا شيوعيين وهو ما استثاره غاضباً وكاد أن يبصق في وجهي . وبعد ثلاثين عاماً في العام 1995 زارني أحد قادة الحزب وقال لي .. " يحق لك يا رفيق أن تبصق في وجوهنا " . الشيوعيون حتى اليوم لا يقرّون بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان بسبب الصراع الطبقي . إعترافهم بهذه الحقيقة له عقابيل كثيرة في غاية الأهمية، منها الحؤول دون تحولهم لأحزاب وطنجية وإصلاحية لا دور ولا معنى لها كما حالها اليوم، ومنها أيضاً اضطرارهم إلى البقاء في دائرة العمل الشيوعي، بالإضافة إلى أنه يبطل كل دعاواهم حول تحول روسيا إلى النظام الرأسمالي حيث البورجوازية الوضيعة هي بحكم تقسيم العمل عدوة للنظام الرأسمالي مثلما هي عدوة للنظام الاشتراكي وهو ما أكده ماركس في المانيفيستو الشيوعي . لذلك تراهم ينسبون الانهيار إلى البيروقراطية تارة أو إلى الإمبريالية الأميركية تارة أخرى، ومنهم من قال أن المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية قام وسبب انهياره فيه وتصل الوقاحة بهؤلاء إلى حد المطالبة بمحاكمة لينين .
لئن كانت البورجوازية الوضيعة السوفياتية تراجعت عن الثورة الاشتراكية وهو ما انعكس بالعديد من الانقلابات العسكرية الرجعية الدموية في دول العالم الثالث في الستينيات إلا أن شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لم تتراجع عن ثورتها ونجحت في تحقيق الإستقلال وفك الروابط مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية وهو ما انتهى إلى انهيار النظام الرأسمالي مخنوقاً بفيض إنتاجه الذي لم تعد الدول المستقله تستورده وتستقبله . استعطاف ليونيد بريحينيف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي للدول الإمبريالية في مؤتمر هلسنكي للأمن الأوروبي 1975 للإلتقاء في منتصف الطريق كي لا يخسر أي من الطرفين، كان يستشرف تجانس البورجوازية الوضيعة السوفياتية مع البورجوازية الوضيعة في الدول الرأسمالية حيث كان قد تحقق انهيار النظام الرأسالي فيها . إزاحة البروليتاريا عن المسرح السوفياتي عمل بالطبع على عدم تمكين البروليتاريا في الدول الرأسمالبة المنهارة من اعتلاء المسرح فيها فكان أن اعتلته البورجوازية الوضيعة .
خلال العقود الأربعة الأخيرة تسيّدت البورجوازية الوضيعة كل دول العالم بما في ذلك دول شرق آسيا وفي مقدمتها الصين الشيوعية حيث لا يمكن الإفتراض أن الحزب الشيوعي الصيني هو اتحاد للرأسماليين !! جميع دول شرق أسيا هي دول بورجوازية وضيعة وإلا لما كانت لتغمر العالم بإنتاج عمالها من البضائع مقابل دولارات غير قابلة للمبادلة بكامل قيمتها الإسمية ؛ الرأسمالي يحرص أشد الحرص على مبادلة منتوجاته بنقود صعبة مكفولة القيمة . وعليه يمكن التأكيد أن دول شرق وجنوب شرق آسيا ومنها الصين واليابان والنمور الستة ليست دولاً رأسمالية بل دول البورجوازية الوضيعة تبادل قوى العمل في عمالها بدولارات منقوصة القيمة . لكن لماذا تقبل البورجوازية الوضيعة في شرق آسيا مثل هذا الغبن !؟
فيما بعد الحرب العالمية الثانية وبروز الإتحاد السوفياتي كقوة عظمى، هبت رياح الثورة الشيوعية عاتية باتجاه شرق آسيا فكانت الثورة ليس في الصين فقط بل وفي دول النمور الأسيوية الستة جميعها . لسوء حظ البشرية جمعاء فقد توفي أعظم رئيس للولايات المتحدة فرانكلين روزفلت في 12 ابريل 1945 ليخلفة أكبر مجرم في تاريخ البشرية هاري ترومان وهو من إقترف أحط جريمة في تاريخ البشرية بإلقاء قنبلتين ذريتين على المدنيين في هيروشيما وناغازاكي وإحراق مئات الألوف من المدنيين الآمنين وكان ذلك الاستخدام الوحيد للسلاح النووي عبر التاريخ .
في الحرب العظمى انهارت أكبر إمبراطوريتين إمبرياليتين، بريطانيا وفرنسا، فكان أن ورثت الولايات المتحدة بقيادة المجرم ترومان كل التركة الاستعمارية التي تحددت منذ العام 1921 بمقاومة الشيوعية . بدأت أميركا مقاومتها للشيوعية بمشروع مارشال (Marshall Plan)1948 الذي قضى بضخ 12.5 مليار دولاراً في اقتصاديات دول أوروبا الغربية وهو ما يعادل 125 مليار بسعر اليوم مستهدفاً إبعاد شعوب أوروبا الغربية عن التعاطف مع الاتحاد السوفياتي الذي حافظ على حريتها بعد أن صادرتها النازية . وفي السنة التالية 1949 شكلت الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي كمنظمة حربية عدائية للسوفيات، فكان هوس العداء للشيوعية وإعدام العالمين الزوجين جوليوس وإثيل روزنبورغ (Julius and Ethel Rosenberg) وتشكيل لجنة التحقيقات برئاسة جوزف مكارثي وهي اليوم صفحة مخزية في تاريخ أمريكا.
من الأسباب الرئيسية لانهيار الولايات المتحدة، قلعة الرأسمالية الامبريالية، في السبعينيات هو مس الجنون الذي أصابها في مقاومة الشيوعية . ففي اليايان تحت الاحتلال الأمريكي كاد العمال أن يستولوا على الحكم في العام 1951 فما كان من أمريكا إلا أن عقدت اتفاقية باسم الأمن المتبادل مع اليابان تكفلت فيها أمريكا بإقامة صناعات تشغيلية للعمال وسرعان ما أصبحت اليابان من الدول الرأسمالية المتقدمة خلال سنوات قليلة تصدر مصنوعاتها إلى الولايات المتحدة نقسها . ذات الشيء فعلته أمريكا في دول النمور الستة التي كانت كوريدورات رياح الثورة الشيوعية العاتية . أما في الصين فقد اتفق الرئيس الأميركي نكسون مع دنغ هيساو بنغ )(Deng Xiaoping الذي كان ماوتسي دونغ يناديه "خروشتشوف الصين"، إتفقا على أن تنتج الصين مهما أنتجت من بضائع والولايات المتحدة ستكون السوق المفتوحة لكل تلك البضائع . وهكذا تكون الولايات المتحدة من أجل إغلاق أبواب الشيوعية في شرق آسيا قد نقلت الانتاج الرأسمالي من الولايات المتحدة إلى شرق آسيا حتى بات الإنتاج الرأسمالي في أميركا لا يصل إلى 17% من مجمل إنتاجها المحلي . اشتغل العمال في شرق آسيا وقعد العمال في أميركا بلا شغل أو تحولوا إلى عمال خدمات يستهلكون الثروة ولا ينتجونها، وانكمشت الطبقة العاملة إلى 30 مليوناً بعد أن كانت في الخمسينيات 75 مليونا ؛ ثلاثون مليوناً ومهما تطورت أدوات إنتاجهم لا يمكن أن ينتجوا ما يسد احتياجات 320 مليونا هم سكان ألولايات المتحدة . كارهو الشيوعية في الإدارة الأميركية أغلقوا أبواب الشيوعية في شرق آسيا لكنهم خاطروا بفتحها في بلادهم . الولايات المتحدة اليوم مدينة ب 20 ترليون دولاراُ وعندما لن تجد من تستدين منه ترليون دولاراً سنوياً لخدمة ديونها، وسيحدث هذا قريباً وقريباً جداً، فستعلن الولايات المتحدة عندئذٍ دولة مفلسة وسينعكس ذلك بكارثة كونية تصيب جميع شعوب الأرض .