في بداية القرن نشرت مقالا موسعا بعنوان (مأزق الثقافة العربية) وعدت للموضوع في مناسبات عديدة تاليه ومنها وفاة نجيب محفوظ والأوضاع العراقية والإيرانية، والحديث عن ما سمي (بالربيع العربي) ويمكن التوسع في اطلاق وصف (المأزق) على الثقافات السائدة على عموم العالم الاسلامي ومفهوم (ثقافة) هنا هو بالمعنى الواسع المتعدد الجوانب والفروع، من سياسية واجتماعية وتعليمية ودينية وإعلامية... وكان اكثر ما ركزت عليه هو الجانب السياسي والجانب الديني المسيسّ الذي يبلغ مداه الخطر في ايديولوجيات الاسلام الجهادي، أي الارهابي (القاعدة وفروعها وداعش ومبدأ تصدير الثورة الخمينية).
ولقد لاحظت ان الثقافة العربية اليوم قد تراجعت الى الوراء بأشواط كثيرة، ليس فقط مقارنة بثقافات العصر، بل ايضا بما كان سائدا في الاربعينيات المنصرمة، من نشاط ونتاج عشرات المفكرين والكتاب والشعراء المبرزين، وموجة الترجمة المنفتحة على العالم وروائع نتاجاته وبدقة متناهية من الترجمة، مما نفتقده اليوم في معظم التراجم العربية. ولا شك في ان صعود التيارات الاسلامية، من اخوانية واخواتها وسهولة اطلاق نعوت المرتد والمس في الذات الإلهية و ماشاكل، قد لعبا الدور الاول في هذا التراجع الموجع للثقافة العربية.
ان الثقافة السائدة تتسم بخصائص منها:
1- النظر الارتدادي الى وراء وكأنه كان مثاليا في كل شيء
2- تراجع الموقف من المرأة تراجعا تاما
3- عقدة المؤامرة، بدلا من النظر اولا الى ما في داخل البيت العربي والبيت الاسلامي من عيوب ونقائص، منها الاستبداد والإرهاب الجهادي وكراهية الاخر وهوس العنف
4- عقدة تأثيم الغرب رغم ان العرب والمسلمين يهرولون ليل نهار، وأحيانا مخاطرين بحياتهم وحياة اولادهم نحو دول الغرب الديمقراطية طلبا للحرية وحياة افضل. فأية ازدواجية؟؟؟؟؟
5- وفي الحياة السياسية هنالك هوس العنف والاجتثاث ورفض المراجعة والنقد الذاتي والعمل بشعار (اما كل شيء او لاشيء) أي بلا مرونة مطلوبة. ومفهوم الديمقراطية نفسه مقلوب على رأسه
6- عدم احترام حرية الرأي والعقيدة، والانفعال الغاضب عندما يرسم غربي او يكتب ما يعتبره المتطرفون اساءة للإسلام والله، والرد ليس بالمنطق واستعمال الحجة بالحجة، بل بالإعمال
العدائية ولحد القتل ومهاجمة السفارات وغير ذلك. نتهم الاخرين بالإساءة للإسلام والتمييز الديني، ونقول ان كانت هناك حقا جماعات او شخصيات غربية مسيئة، فأنها لا تمثل المجتمعات والحكومات الغربية، وهذا بصرف النظر عن السياسات الخارجية. والحال ان التمييز هو فينا، شائع وعشرات المرات اضعافا.
7- سهولة انتشار الغوغائية الشعبوية سواء باستغلال المشاعر الدينية والمذهبية وتأجيجها او باستغلال القضية الفلسطينية التي تاجرت بها وتتاجر، اطراف كثيرة، سابقا واليوم، ومنها النظامان البعثيان السوري والعراقي، ونظام خميني، وهو استغلال اساء لحد كبير للقضية، واستخدام لممارسات الاستبداد والمغامرات والعنف مما دعم الارهاب وشجعه... وهنا نود التاكيد على ان نزعات العنف والتشنج والميل الى الغاء الاخر، نجدها حتى بين المثقفين والكتاب ومساجلاتهم، كما نجدها في التعليقات على المواقع الالكترونية حول هذا المقال او ذاك.
8- ولو نظرنا الى المناهج التعليمية، ولا سيما في كتب التاريخ، فسوف نرى تمجيد طغاة وغزاة قتلوا ودمروا وسبوا النساء وحولوا الكنائس الى مساجد من امثال خالد بن الوليد وطارق ابن زياد ومن لف لفهم. وهذه المناهج ايضا لا تهتم بنشر افكار التعايش وقد تشوه التاريخ كما يجري تشويه علاقة الامام علي بعمر بن الخطاب، حيث كانا متقاربين ومتعاونين ومتصاهرين ولكنهما بعد وفاتهما انقلبا في الكتب وأساطيرها الى عدوين لدودين وذلك ما شجع الطائفية ويشجعها
9- واما فكرة الاصلاح الديني، ووضع كل شيء في نصابه التاريخي وظروفه فان ذلك محّرم تماما في العالمين العربي والإسلامي. وعلى هذا النحو فان ثقافة تمجيد العنف، وازدراء الاخر واستصغار المراة لايمكن ان تساهم ايجابيا في الحضارة البشرية الراهنة. فالاكتفاء على الماضي وعلى النفس بالضد من الانفتاح والنظر الى الأمام، وهو بمثابة ينابيع تفرخ الارهاب وتمجد سفك الدماء وتسيء الى سمعة العرب والمسلمين.. ان لثقافتنا المتخلفة دوراً كبيرا في ازمات المنطقة وتداعياتها الخارجية، من اعمال ارهابية وتهجير عشرات الملايين للخارج، وذهب كثيرون ضحايا لايديولوجية الاسلام السياسي، المشتقة من ثقافة متخلفة، مفكرون ونوابغ مثل فرج فودة، والذي اغتيل، نصر حامد ابو زيد الذي افتوا بتفريقه عن زوجته، ونجيب محفوظ الذي همّوا بقتله، واليوم الكاتب الاردني ناهض حتر، وآخرون، ناهيكم عن صحفيين غربيين كانت جريمتهم الوحيدة ممارستهم لحقهم الديمقراطي في النشر والتعبير.. واما عن علاقات التخلف الثقافي العربي بالأزمات الساخنة، فهو ما سنعود اليه في مقال تال.