منذ أن عرف العالم الدولة الحديثة، ظلّ الجدل قائماً بين جناحين يتناوبان الأدوار في المجتمع والسياسة: اليمين واليسار، لكن قليلين يتوقفون عند الجذور الأولى لهذين المصطلحين اللذين وُلدا من رحم الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، حينما انقسم أعضاء «الجمعية الوطنية» إلى مجموعتين: الأولى جلست إلى يمين القاعة ممثِّلةً النظامَ الملكي والدولةَ والقانون، والثانية إلى يسار القاعة حاملةً صوت الشعب الثائر المطالب بالحرية والمساواة والعدالة. منذ تلك اللحظة وُلدت ثنائية اليمين واليسار، بوصفها تعبيراً عن توازنٍ ضروري بين صوت الدولة وصوت الشارع؛ وبين النظام والتغيير، وبين الحفظ والإصلاح. ومع مرور الزمن، انتقل المفهومان إلى الفكر السياسي في أوروبا والعالم، فوجدنا في اليمين امتداداً لفكر المحافظِين أمثال آدم سميث الذي مجّد حرية السوق، وإدموند بيرك الذي دعا إلى احترام التقاليد والمؤسسات، وفي المقابل تبلور اليسار الفكري على يد كارل ماركس ورفاقه الذين نادَوا بإعادة توزيع الثروة وحقوق العمال والمساواة الاجتماعية.
تلك الجدلية بين الجناحين كانت، في جوهرها، بحثاً دائماً عن توازن الدولة والمجتمع، ففي زمن الثورات والانتفاضات، يعلو صوت اليسار؛ لأنه الأقرب إلى الشارع والأقدر على التعبير عن وجع الناس، فيرفع شعارات العدالة والمساواة وحقوق الفقراء، ومن رحم هذا المزاج وُلدت غالبية الثورات الكبرى؛ مِن «كُوْمُوْنَةِ» باريس (الثورة الفرنسية الرابعة)، إلى حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن حين تتجاوز الثورةُ حدودَها، وتتحول إلى فوضى وسلاح منفلت، ينهضُ اليمين ممثِّلاً لفكرة الدولة والنظام، ساعياً إلى استعادة القانون وهيبة المؤسسات؛ لأن الحريةَ دون نظام فوضى، والنظامَ بلا حرية استبداد... وهكذا، يتقدّم كل جناح في لحظته التاريخية ليعيد التوازن إلى الكفتين مرةأخرى.
الوهم الكبير الذي يقع فيه كثير من المراقبين هو تصور اليسار واليمين بوصفهما خَصمَين دائمين على طرفي نقيض، بينما الحقيقة أنهما، في التجربة السياسية الحديثة، جناحان متكاملان لا تقوم الدولة دونهما، فاليسار يذكّرها بواجبها الأخلاقي والاجتماعي تجاه مواطنيها، واليمين يذكّر المجتمع بحدود الحرية والانضباط وضرورة بقاء القانون فوق الجميع. وقد أدركت أوروبا، بعد قرون من الصراع، أن سرّ الاستقرار يكمن في تداول التوازن بين الطرفين، لا في انتصار أحدهما على الآخر، ولذلك تناوبت الحكومات الاشتراكية والمحافظة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، من دون أن تنهار الدولة أو تُختزَل في حزب أو آيديولوجيا، وفي كل مرة، كان التغيير يحدث داخل الإطار ذاته: الدولة أولاً.
أما في العالم العربي، فقد دخل المفهومان مشوَّهين ومقلوبين، فبعض الأنظمة التي رفعت شعارات اليسار تحوّلت إلى ديكتاتوريات شمولية، بينما بعض من تبنّى شعارات اليمين انزلق إلى نزعات دينية أو قومية مغلقة، تُقصي الآخر وتختزل الوطن في فئة أو طائفة، والنتيجة أن اليسار فقَدَ روحه الإصلاحية، واليمين فقد عقلانيته المؤسسية.
اليوم، ومع تصاعد الفوضى وغياب القانون في كثير من دول المنطقة، تتجدد الحاجة إلى فهمٍ متزن لدور كل جناح، فالمجتمعات التي تُقصي اليسار تفقد ضميرها الاجتماعي، وتلك التي تُقصي اليمين تفقد مؤسساتها وانضباطها... الدولة السليمة تحتاج إلى الاثنين معاً؛ يسارٍ يمنحها حرارة العدالة، ويمينٍ يحفظ لها عقل القانون.
في النهاية، لا عيب في أن يختلفا، بل العيب في أن يتوهما أنهما خَصمان أبديان، فحين يتصارعان، فإن الدولة تنهار، وحين يتكاملان تزدهر، والنجاح الحقيقي ليس في انتصار اليسار على اليمين، أو العكس، بل في أن تبقى الدولة فوقهما، تُوازِنُ بالعدالة ميزانَ الحرية، وتَحفظُ بالقانون روح الثورة.

