عندما كشفت صحف عن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام المؤلفة من 28 نقطة صُعق قادة أوروبا المشاركون في قمة الدول العشرين في جنوب أفريقيا، ولم يصدقوا ما سمعوه، وسارعوا عبر قنواتهم الرسمية للتأكد ليكتشفوا أن الأميركيين لهم يد في الخطة؛ هذا الشعور وضعهم أمام خيارين: رفضها فوراً ومواجهة ترمب في وقت يحتاجون إليه لحمايتهم من مواجهة مع روسيا غير مستعدين لها، أو مسايرته والعمل على إفراغها من عناصرها المؤذية لأمنهم. وتمكنوا بالفعل في مفاوضات جنيف من إفراغها من بنودها الضارة لمستقبل أوكرانيا كدولة ذات سيادة. وكحال المبادرات السابقة يقبلها الروس أولاً ثم يتراجعون بعد تدخل الأوروبيين، وهكذا دواليك.
هذا النمط من المبادرات أصبح سمة للرئيس ترمب لإيمانه أن من يملك الأوراق المؤثرة ينال ما يطالب به؛ لذلك قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض: «ليس لديك أوراق للتفاوض». ويعتقد ترمب، خلاف الأوروبيين، أن الرئيس بوتين سيكسب الحرب، ومع مرور الوقت سيحتل ما تبقى من إقليمي دونتسك وغالنسك، وأنه من الأفضل إعطاؤه إياهما، ووقف الحرب، وتأكيد عدم دخول أوكرانيا لحلف «ناتو»، وضمان أمن أوكرانيا بتعهدات أميركية وأوروبية. بعبارة أخرى، قبول كل طلبات بوتين. هذا التفكير الترمبي نابع من قناعة راسخة أن أميركا لا يمكنها حل مشاكل العالم، ولن تستخدم القوة إلا لحماية مصلحة أميركية كبرى؛ لكنها بالمقابل ستسعى لحل المشاكل سلمياً وتحصل بالمقابل على سمعة طيبة، والأهم عوائد استراتيجية واقتصادية مثل اتفاقيات تجارية مربحة مع روسيا وأوكرانيا، علاوة على فك الارتباط بين روسيا والصين. ورغم الشواهد الكبرى على تمسك ترمب بهذه السياسة، فإن قادة أوروبا يصرّون على التمسك بالأمل وليس التفاؤل؛ الأمل أن تتوقع تدخل قوى غيبية والتفاؤل أن تتوقع نتائج من جهد بشري. فالأوروبيون مختلفون على التمويل، وعلى كيفية مواجهة روسيا، ومنظومتهم الديمقراطية تجعلهم مترددين مخافة خسران قاعدتهم الشعبية. وهكذا أصبح تدخلهم في كل مبادرة للرئيس ترمب لا تعدو عن كونها حجر عثرة على طريق الحل، فيزعجون ترمب، ويؤخرون المشكلة، رغم قناعتهم التامة بأن ترمب ليس بوارد الوقوف معهم.
يرى ترمب الصراع في العالم، كما يقول محللون، عمودياً (شمال أميركا وجنوبها) وليس مسطحاً بين غرب وشرق؛ لذلك يركز على الأميركتين (أميركا الشمالية والجنوبية) ويعمل على تنظيفها من أي نفوذ صيني وروسي وإيراني، وهو ما نراه حالياً في فنزويلا وانتخابات الهندوراس؛ ما يهمه حديقته الخلفية (نظرية مونرو) وما عداها قابل عنده للمساومة والصفقات وفق المصلحة الأميركية البحتة. لهذا؛ يعترف ضمناً لغيره من الأباطرة مثل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ بحقهما في حديقة خلفية، ويمكن أن يفاوضهما عليها مقابل صفقات تضمن له مصالح ومنافع من دون أن تترتب عليه موجبات عسكرية أو مالية. كما أن ترمب في رسمه للسياسة لا يهمه المبادئ وحقوق الإنسان، بل موازين القوى على الأرض، فإذا كان أحد الطرفين المتحاربين أقوى من الآخر، فلا يجد حرجاً في الوقوف مع القوي بحجة إنقاذ الضعيف من الفناء؛ وهذا ما طبقه في غزة عندما أعطى إسرائيل في خطته للسلام في غزة كل ما تطلبه مقابل أن تتوقف إسرائيل عن تصفية «حماس» ومعها قتل مزيد من الأبرياء الفلسطينيين. وفي كل الصفقات التي نجح فيها كانت سياسته على هذا النمط، إلا في أوكرانيا لأن قادة أوروبا يدعمون أوكرانيا مالياً وعسكرياً ويمنعون حتى الآن انهيار الجبهة الأوكرانية، ولأن سياسيين بارزين في صفوف حزبه، وحزب الديمقراطيين الأحرار يتمسكون بدعم أوروبا، وبمنع بوتين من تغيير المعادلة العسكرية. وترمب يدرك ذلك تماماً ولكنه كتاجر محترف لا ييأس، بل ينتظر تقلب السوق ثم يعود لطرح البضاعة نفسها بعد تزويقها لترغيب المشترين، وهكذا دواليك حتى يتمكن الرئيس بوتين من تحقيق هدفه عسكرياً، وكل الدلائل تؤشر إلى ذلك، وعندها سيجد الأوروبيون أنفسهم في ورطة كبرى: يقبلون صلحاً أسوأ بكثير مما عرضه ترمب، أو يعترفون بالهزيمة مع خطرها الاستراتيجي على أمنهم القومي.
مشكلة قادة أوروبا أنهم لا يزالون يعيشون في عالم ما بعد الحرب الباردة، واقتناعهم بحتمية انتصار قيم الديمقراطية الليبرالية، وأنهم نموذج مثالي لنظام عالمي قائم على القانون، بينما الواقع خلاف ذلك تماماً؛ فلا أميركا حليفة لهم، كما أخبرهم نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس بفجاجة في مؤتمر ميونيخ في بداية هذا العام، ولا حتى شعوبهم تتشوق للديمقراطية، وكل المؤشرات تدل على تزايد شعبية اليمين المتطرف الرافض لفكرة الليبرالية، ولدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا. وقادة أوروبا يدركون شخصية ترمب، ومزاجه، وسياساته، لكنهم يتجاهلون الحقائق، ويعلقون الأمل على تغير ترمب، وبذلك يصبحون كالنعامة تطمر رأسها في الرمل لكيلا يراها الصياد.

