: آخر تحديث

الحلقة الضائعة

1
0
1

يستمرّ تصادم الأفكار والمشاعر وتضاربها في كلّ اتّجاه خلال المرحلة المضطربة؛ مما يزيدها تعقيداً وخطورة... شيء من «برج بابل». وعندما نسلّطُ ضوء العقل على هذه الحالة المستمرّة كما هي منذ زمان، والدائرة على نفسها في تكرار عقيم غير موصل إلى مكان، نُدرِك أن من أهمّ أسباب هذا الدوران في الفراغ غياب بعض المفاهيم الأساسية التي لا سبيل إلى إدراك الواقع من دونها. وهي مفاهيم غائبة كليّاً عن النقاش العام؛ مما يوصله في كلّ مرة إلى الطريق المسدودة عينها.

من أهمّ هذه «المفاهيم - المفاتيح الضائعة»، عدم إدراك أن هناك نوعين من المجتمعات في عالمنا المعاصر، مختلفين جذريّاً كليهما عن الآخر: «مجتمع الأفراد» و«مجتمع الجماعات». وما دام لم يتسرّب هذا المفهوم عميقاً إلى عقول المثقفين والمتحاورين في بيئاتنا، فسيستمر الدوران في الحلقة المفرغة نفسها إلى ما لا نهاية.

ومفهوم «مجتمع الأفراد ومجتمع الجماعات» حقيقة سوسيولوجية علمية بيّنة، لا حاجة لإثباتها... فالمجتمعات الصناعية، في القارة الأوروبية (بما فيها روسيا)، وفي القارة الأميركية الشمالية، وفي أوقيانيا، هي «مجتمعات أفراد». والمجتمع في مشرقنا العربي (وفي مغربنا أيضاً)، على سبيل المثال، ما زال «مجتمع جماعات» لا سبيل لتغييره.

ثمة مسار تاريخي كبير أوصل إلى هذا الواقع. من جهة؛ أدّت التحولات العميقة التي أطلقتها النهضة الأوروبية منذ القرن الـ15 إلى «الثورة الفردية»، حيث تفكّكت البنى القروية والعائلية والمناطقية الريفية التقليدية، محرّرة الأفراد؛ رجالاً ونساءً، من عقالها، في عملية الانتقال التاريخي من المجتمع الزراعي والحرفي إلى المجتمع الصناعي والتكنولوجي. ومن الجهة الأخرى؛ لم يستطع مجمل الأنظمة السياسية والآيديولوجية التي توالت على المشرق والمغرب، كما على أنحاء كثيرة من العالم، تحقيق الانتقال من «مجتمع الجماعات» إلى «مجتمع الأفراد». ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة لا يتسع لها المكان هنا... بل على العكس من ذلك، اشتدت قوّة الجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية والمناطقية في عالمنا المشرقي والمغربي.

ومن البديهي، وهو ما يغيب كلّياً عن النقاشات الدائرة، التأكيد على أن ما يصحّ في «مجتمع الأفراد»، لا ينطبق بالضرورة على «مجتمع الجماعات». وما يزيد الوضع غموضاً أن مجمل المصطلحات الفكرية والسياسية المتداولة، كالديمقراطية القائمة على الانتخابات النيابة، ومفاهيم: «العلمنة»، و«الشعب»، و«مركزية الدولة»... وغيرها، آتية من «مجتمع الأفراد» إلى «مجتمع الجماعات»، في عملية التثاقف المستمرة، خصوصاً منذ مطلع القرن الـ19 حتى اليوم.

المشكلة أنه في ضوء هذا التثاقف الأحادي الجانب، ينظر «مجتمع الجماعات» إلى نفسه في بيئاتنا كأنه «مجتمع أفراد»، فيقع في الالتباس الكبير. يظن الأفراد أنهم يحاور بعضهم بعضاً، بصفتهم أفراداً؛ مستقلي الرأي، بينما هم أفراد تسكنهم عميقاً جماعاتهم، فيضحى الحوار تصادماً مصيرياً بين الجماعات، لا يفضي إلى مكان. ومع أن الانتخابات الديمقراطية، على علاتها الكثيرة في بيئتنا، تبقى أفضل، بما لا يقاس، من الديكتاتورية، فإنها تصلح أساساً لـ«مجتمع الأفراد» وليس «الجماعات». فالاقتراع قناعة ذاتية عميقة. يتجنّب الفرنسي، على سبيل المثال، سؤال زوجته من انتخبت؛ لأن سؤاله امتهان لاستقلاليتها وحرية قرارها. أما في «مجتمع الجماعات»، الذي هو مجتمعنا، فتصبّ العائلة، ولو كانت عشيرة من مائة شخص، صوتاً واحداً في صندوق الاقتراع. والويل لمن يخالف القطيع! والانتخابات في مجتمعاتنا مشوبة دوماً بهاجس العنف، وهو أبعد ما يكون عن روحيتها.

ومفهوم «العلمنة» هو أيضاً لـ«مجتمع الأفراد» حصراً، وللقناعات الذاتية البحتة؛ إذ كيف يمكن علمنة جماعات بكاملها، وهي مترابطة متراصة طائفياً ومذهبياً؟ كذلك مفهوم «الشعب» لا ينطبق إلا على «مجتمع الأفراد»، وليس على «مجتمع الجماعات - الشعوب». أما «الدولة المركزية» في «مجتمع الجماعات» فغالباً جداً ما تؤدي إلى تسلّط مطلق من جماعة ما على الجماعات الأخرى... في انتظار سقوطها والهيمنة عليها.

لا بدّ من أن يعترف «مجتمع الجماعات» بصفته هذه كي يتجاوز متاهته. ولعلّ «الصيغة اللبنانية» هي الصيغة الوحيدة السابقة عصرها في هذا المجال، إذ أقامت منذ عام 1861 فيدرالية مجتمعية بين جماعاتها ضمن الأرض الواحدة. لذلك هي، على علاتها وثغراتها، النظام السياسي الأقدم والأطول استمرارية في الشرق الأوسط. لا شك في أنه بعد 164 عاماً على قيامها، باتت بحاجة إلى تعديلات وإصلاحات... لكن ليس في اتجاه الدمج القسري مولّد العنف والطغيان، بل في التمسك بالتمايز الخلاق فوق الأرض الواحدة... أرض الحرية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد