: آخر تحديث

مرحباً... أنا الأم

4
4
4

محمد ناصر العطوان

لا تقلق يا بني، فأنا هنا لم أعد أبكي على شيء... كل شيء يُبكَى عليه انتهى... وبقيت الأشياء التي تُضحك لأنك لا تعرف كيف تبكيها.

تسألني عن أخبار التاسعة وهل ما زلت أتابعها بالشغف نفسه الذي كان في الدنيا؟ أتابعها هنا أيضاً، لكن الصورة فيها مشوّشة قليلاً، ربما لأن البث يأتي من الذاكرة لا من المحطة.

ما زال المذيع نفسه، بصوته الخافت وابتسامته التي لا تصل إلى عينيه.

يقول: «في خبر عاجل ما زالت فلسطين والسودان وكشمير...» فأرفع رأسي، ثم أتذكّر أن لا أحد في الصالة غيري.

كنتَ صغيراً يا ولدي، وكنتَ تظنّ أن الأخبار جزء من العبادات الخمس.

تصلي العصر، تُذاكر قليلاً، ثم تنتظر أن أقول لك:

«هسّ، بدأوا!»

تجلس بجانبي دون اهتمام حقيقي، لكنك كنت تعرف أن الجلوس بجانبي كان طريقتك في الصلاة.

الآن، صارت الأخبار تأتيك كل لحظة، ومع ذلك لا تجلس.

تُمرّرها بإبهامك مثل حبات مسبحة سريعة، لا ذكر فيها ولا طمأنينة.

أتذكر أول مرة قلتَ لي إنّ العالم صار في الهاتف؟ ضحكت، وقلتُ: «إذا كان في الهاتف، فلماذا لا تكلّمني إلا قليلاً»؟

لم تُجب.

أعرفك جيداً يا ابن بطني... أنت لا تجيب حين تكون الإجابة صعبة!

بعد رحيلي، أصبحت كاتباً... تكتب قصصاً قصيرة في الجريدة عن الوطن والحنين، وأنا أقرأها كأنك تكتب اعتذاراً مؤجّلًا.

لم أكن أفهم كل شيء، لكني كنتُ أعرف أنك حزين بطريقة لا تشبه الحزن الذي أعرفه...

حزنكم أنتم متحضّر، بلا دموع ولا دعاء، يشبه شاشة مُطفأة بعد برنامج جميل.

كنتُ أحب أن أراك تضحك.. ولكني كنت أعرف أن ضحكك دفاعٌ عن نفسك، تضحك لأنك لا تريد أن تبكي أمام أحد، حتى أمامي.

ولذلك، كنتُ كلما ضحكتَ قلتُ في نفسي: «اللهم احفظه من الذي يضحكه».

الآن أراك تكتب عني، وأنا أبتسم.

لا، لأنك تذكرني، بل لأنك أخيراً سمعت صوتي دون أن أرفع صوت التلفزيون.

كنتُ دائماً أقول لك: «يا ولدي، لا تسرع... الدنيا ما تهرب».

لكنكم جعلتم كل شيء يركض...الوقت، الأخبار، الحب، وحتى الكتابة.

الركض عندكم عبادة، أما الوقوف فخوف!

هل تظن أني خائفة هنا حيث لا ركض تجاه أي شيء؟ أبداً.

أنا فقط قلقة من أن تترك نفسك كما تركتَ كل شيء... الأم لا تخاف الموت، تخاف أن ينجو أبناؤها منه بلا معنى.

خذها نصيحة أخيرة — إن كان في نصائحي فائدة بعد — عُد إلى الجلوس قليلاً، إلى البطء، إلى الأخبار التي كانت في التاسعة لا في كل لحظة...

عُد إلى فكرة أن العالم يمكن أن يُروى لا أن يُبثّ.

وأنا، إن مرّ اسمك في نشرةٍ ما، سأرفع الصوت كما كنتُ أفعل... وأقول للجارات اللاتي لا يسمعنني هنا:

«انظرن، ذاك ابني... الذي ما زال يركض»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد