: آخر تحديث

الاستغباء مع الاستعمار

4
4
3

كان الاستعمار، أو استعباد الإنسان وأهله ووطنه، من كبرى الكوارث التي تعرّضت لها أغلبية دول العالم، فقد تحولت دول كثيرة، شعوباً ومصادر طبيعية، لحركة استغلال استمرت، في حالات عدة، مئات السنين، وما زال الاستعمار، بمفهومه القديم، الذي تغيّر في السنوات الأخيرة إلى أشكال أكثر خطورة، يعني الغزو والاحتلال وتفكيك مجتمعات الدول «المستعمَرة»، وحكمها مباشرة، وجعل شعوبها من مرتبة أدنى، ومصادرة أراضيها، ومحو ثقافتها، وفرض لغة ودين وعادات مختلفة عليها، دون اكتراث بكل الكوارث التي تسبب بها، وعدم التردد حتى في اقتراف جرائم «إبادة جماعية»، كما حدث في ناميبيا على يد ألمانيا، وفي الصين على يد اليابانيين، بخلاف التعذيب والقمع المنهجي للماو ماو، في كينيا، على يد البريطانيين، ومذابح جنوب أفريقيا، على يد المستعمرين البيض، هذا بخلاف هلاك الملايين في البنغال بسبب المجاعة عام 1943، بعد مصادرة البريطانيين أراضيهم الزراعية، فوق دورهم الإجرامي في انفصال باكستان عن الهند، وطرد 10 ملايين من بيوتهم، ومقتل مليون آخرين نتيجة العنف الطائفي.

كما لعب المستعمرون أدواراً قذرة في تجارة الرقيق عبر نقل ملايين الأفارقة للعمل سخرة في مزارع القطن والسكر في أمريكا، وجميعها تركت ندوباً وآثاراً عميقة في نفسيات مئات ملايين البشر، لا تزال آثارها ماثلة أمام العيان حتى اليوم.

أما بخصوص الادعاء بأن الاستعمار قام بإنشاء بنى تحتية ومؤسسات في تلك الدول، فهذا تم خدمة لمشاريعه، للإسراع في عملية نهب ثروات تلك البلاد، وخلق دويلات مصطنعة في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا والبلقان، بسلطات فاسدة، وإدارات متخلفة واقتصاد منهار تماماً وتطبيق إجرامي لسياسات «فرِّق تسد»، والتسبب في صراعات عرقية ودينية وقبلية، حية حتى الآن. ولا ننسَ جهود فرنسا، على مدى أكثر من مئة عام، لجعل الجزائر فرنسية تماماً، من خلال مسح كامل ثقافتها وتغيير لغتها، وعدم التردد في قتل مئات آلاف الجزائريين، الذين هبوا دفاعاً عن استقلال وطنهم.

كما لم تتردد أغلبية السلطات الاستعمارية في تخريب بيئة الدول، التي قامت باستعمارها، وإتلاف تنوعها البيولوجي، وتلويث تربتها ومياهها، وإجراء التجارب على بيئتها وتخريبها تماماً. ومن السخف والانحطاط بعدها مطالبة البعض بإعادة النظر في نظرتنا السلبية للاستعمار، في الوقت الذي لم يتردد فيه لا مثقف ولا ناشط سياسي حر، في أوروبا وغيرها، في إدانة بشاعة التاريخ الاستعماري. كما لم تكتفِ حكومات عدد من تلك الدول في إدانة أعمالها الوحشية في سابق مستعمراتها، والاعتذار عما قامت به من جرائم بشعة، ودفع تعويضات لشعوب مستعمراتها السابقة، وإعادة ما تم نهبه من آثارها وتاريخها، وهذا يبيّن خجلهم من سابق أفعالهم، ليأتي آخرون، كانوا يوماً ضحايا لجرائم الاستعمار، ليبدوا شوقهم إلى تلك الفترة، في تصرف ربما يتماهى مع موقفهم من الاحتلال أو الاستعمار الصهيوني لفلسطين.

أما في ما يتعلق بالوجود البريطاني في الخليج، والقول إنه جاءنا ونحن فقراء، وتركنا ونحن أغنياء، فهو قول ساذج وسطحي. فقد أتوا بالفعل والمنطقة فقيرة، وتركوها، في السبعينيات، وأغلبية دولها فقيرة! فهم لم يأتوا لها حباً في أهلها، بل لموقعها الإستراتيجي، ولمنع وصول نفوذ الأتراك العثمانيين لها، ليبقى طريقها للهند آمناً، وليمنع، تالياً، وصول المد الشيوعي إلى «مياه الخليج الدافئة».

وعندما ترك البريطانيون المنطقة لم يضطروا إلى إطلاق رصاصة، لعدم حاجتهم لذلك، في غياب أي مقاومة عنيفة على وجودهم. كما أن خروجهم كان طوعياً، بعد أن اكتشفوا أن تكلفة البقاء أعلى من الخروج، خاصة مع وجود أساليب أخرى للاستمرار وبقاء السيطرة.


أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد