: آخر تحديث

النقنوق

4
3
3

علي بن محمد الرباعي

انكفت الفقيه بعد شهر مرض، وما صدّق (النقوق) أن الله وخّره من طريقه، فانصرفت إحدى عينيه للفقاهة، والأخرى لأرملته الماهرة بفنون الحياة، من خياطة، وزخرفة ونقش وطيب مرقد، ومرّت أيام العزاء على النقنوق ثقيلة؛ مع أنه سجّل حضوراً عاطفياً، لفت أنظار أهل القرية، يتلهلب من عند الطباخ، إلى القهوجيّة، ويقف على رأس العريفة وكل ما فنجال العريفة غلّق عبّاه، وينحني له، قائلاً؛ فنجالك يا كبيرنا.

كان ما يتروّش بالأسابيع، ولا يلام قطرة على جسده، صار ما يخرج من الطشت النحاسي؛ وأشغل زوجته، كُدّي ظهري بخيشة، وافركي كعوبي بحجر، وامرخي وجهي بالسُّذاب؛ لين يذلّي يصطفق، وأدركتْ المسكينة، أن مبالغته المباغتة في التنظف، وعنايته بغسل ثوبه كل يوم وراها سرّ؛ فتقول له؛ كيف لك، بيجي المطر، وتضيف؛ ما خبرتك تحبّ الهيالة، ولا أنته من أهلها، فيردّ عليها؛ النظافة من الإيمان، وإن كان على الماي ما يستقي لك إلا أنا وحماري، وكلما سرح وشاف شجرة عُتم؛ يفتصخ له منها عشرة مساويك، ويرصها في جيبه؛ ويسابق على المسجد، وكثيراً ما تناشب مع المذّن؛ لأنه يرفع الأذان.

لاحظ العريفة؛ أن (النقنوق) من ساعة دخوله المسيد، منكبّ على المصحف اللاطي في حُثله، يحنم بالتلاوة وينغّم، ويتمسوك، والعريفة فطن، يوم يقدمه يصلّي بهم، ويوم يقدّم المذّن، وإذا صلّى بهم الفجر، يقنت ويتباكى، فينحرق المذّن، وبعد الصلاة ينفر فيه؛ ليش تقنت، وفقيهنا الفاني الله يرحمه ما كان يقنت بنا إلا في رمضان؛ وانت اهدنا فيمن هديت؛ وانت ما خليت بيت ما نقنقت فيه وعليه؛ ولأنه ذهين؛ يكتفي بالقول؛ اشهد عليه يا كبيرنا، انحن منحن شوافع؟ والعريفة يتبسم ويقول؛ ادعوني أستجب لكم.

في عصر يوم شاتي؛ طلب من زوجته تحدّ الشفرة، وقبل المغرب نزل المراح، وانتقى أسمن الرّخال، ولمس ضرّتها كي يتأكد أنها سليمة من الدفاع، يممها للقبلة في السفل، وذبح وسلخ، وفصّلها في قشبي، وغطى على اللحم بشرشف، وامّرش بها من المسراب في الغُدرة لبيت العريفة؛ الذي كان ينتظر جحل الطبيخة يفور، ولا عبّى ولا ثبّى إلا والقشبي بلحمه وشحمه ورأس غير مشوّط بين أياديه؛ فقال لزوجته؛ اندري جحلك واغرفي الطبيخة لاهلك.

أبى يقعد النقنوق، بغى فيه العريفة، فأقسم ما يتواسى؛ إلا في وقت غير ذا الوقت؛ وأشعره أن صلاة العشاء حانت وبيغدي يوذّن؛ والعريفة عندما أدخل يده من تحت الشرشف ولمس اللحم الطري والكبدة بشحمها اتخذ قراره؛ وعندما قامت الصلاة، وتقدم المذّن للمحراب؛ شدّه العريفة من كُمّ كوته؛ وقال؛ المحراب ما هو لك؛ من اليوم حدّك؛ حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، واهي كثيرة عليك؛ أدرج النقنوق المسواك على أسنانه المُفرّجة ونادى؛ استوا واعتدلوا؛ فقال المذّن بنستوي ونعتدل بالمشعاب.

طوّل العريفة، والفقيه الجديد في التسنان. خرج المذّن قبلهم، ولم يجرؤ على العودة، وسمعهم يتجادلون؛ ودّه يلتقط وش يقولون؛ فانزوى في الغدرة وراء حماطة الظُّلة عريضة الجذع، وتيقّن أن بينهم دسدسه من يوم خرجوا متلازمين بالأيادي، ورصدهم لين ضوّاهم بيت العريفة؛ وطُل يا ليل واقصر يا ليل؛ وهو داخل خارج من الشقيق إلى الرعش؛ يتبدّى ويترقّب متى يسري النقنوق، وغلبه النوم وهو منبطح في فتحة الخلف، فغطته زوجته الحانق عليه؛ بجودري؛ وهي تقول؛ مرقاد أهل الكهف يا ديكان.

سرى العريفة، والفقيه الجديد، والشاعر، على مزوح وفروح، وقرض يطقطق؛ اشتووا الكبدة، وشوّطوا رأس الرخل، وتعشوا، والشاعر يمعني للعريفة بالقصايد؛ (يا رخل ما ناشها طُرقي ولا عضّها ناب؛ هني لمن مصّ عظمتها وزمّ السبالي) ولكي لا ينساه النقنوق دقه بالقصيدة (يا راعي الغنم وين انت عنها؛ ضاعت ما ضوى منها رعيّه) فتعالت الضحكات، وزوجة العريفة تملّح اللحم وتعلّق على الحمّالة.

فزّ المذّن قرب منتصف الليل، ونادى على زوجته؛ (يا شرقه) أشمّ لي ريحة شواط؛ فقالت؛ تتحلّم، اللي يرقد ما يتعشى يشبّره شبّار الموت؛ وتلقى لحيتك قربت من جهنم؛ وتقذقذت، وأضافت؛ بقيت لك فريقه في الطاسة، تلحّسها إن كان سلمت من البساس، وفي صلاة الفجر؛ نصّب العريفة (النقوق) إماماً للقرية، فقال المذّن بينه وبين نفسه؛ ورث الفقاهة؛ ولكن وأنا ولد أُمي ما يرث أرملة الفقيه؛ لو ما يبقى من لحيتي شعرة؛ فلقيها صبح، بعدما انتهت العدّة تنقّي في ركيب الدجر، فسلّم قائلا (ولعون يا دلّة الرسلان) ردّت؛ الله يعينك يا الصديق الصدوق؛ فحط ايده مع ايدها، وانتبهت أن وده بهرجة؛ فقالت؛ هات علمك؛ فأقسم لها؛ إنه ما يشوفها إلا كما عيونه؛ فقالت؛ كمّل النِقّاي؛ واصرم لي قصبة قضب لبقرتي وروّحها لي، وما كمّل إلا مع الظهر؛ وراح والحزمة فوق رأسه؛ ورشوحه تقطر؛ ورمى بالقضب فوق العابر؛ وإذا بالفقيه الجديد معتنز جنب الزافر، ودلّة الرسلان تفوح قبالته بالزعفران.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد