إنه تحول كبير في العلاقات الدولية، وفي العلاقات الأميركية - الباكستانية. فبعد 3 عقود من التدهور، وصلت العلاقات الأميركية - الباكستانية إلى حافة حرجة، تداخلت فيها الخلافات بخصوص أفغانستان، والإرهاب وجبهة بلوشستان والعلاقات مع الصين والهند إلخ...
لكن، وبعد سنتين من الانسحاب الكارثي للقوات الأميركية من أفغانستان، بدأت الأوساط الاستراتيجية الأميركية مراجعة شاملة للتموضع الأميركي وسط آسيا وفي المحيط الهندي. نجم عن المراجعة، تنشيط لعدد من القنوات الدبلوماسية في الإقليم، لسبر الفرص الجديدة لإعادة هيكلة التموضع الأميركي في الإقليم.
نهاية المطاف، وفي شهر يونيو (حزيران) الماضي، وفي سابقة لافتة، استقبل الرئيس ترمب المشير عاصم منير، لتناول الغداء في البيت الأبيض، لتكون المرة الأولى التي يستضيف فيها رئيس أميركي قائداً عسكرياً باكستانياً في غياب القادة المدنيين.
ثم تُوّجت هذه الجهود، في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، باستضافة الرئيس ترمب رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، وقائد الجيش المشير عاصم منير، في البيت الأبيض مجدداً، في أحدث مؤشر على تحسن جديّ للعلاقات. كما شوهد المشير منير جالساً في الصف الأمامي في حفل تغيير القيادة المركزية الأميركية في فلوريدا.
جاء هذا التحول حصاداً لعملية دبلوماسية استغرقت شهوراً، ترافقت مع تحركات نشطة للوفود التجارية الأميركية في مجال استخراج الطاقة والمعادن الاستراتيجية والثمينة.
وفيما تأتي هذه الموارد في أولويات إدارة ترمب للنهوض بصناعة التقنيات العالية، المدنية والعسكرية، بدءاً من البطاريات وصولاً إلى الصواريخ، فإن بلوشستان - باكستان من جهتها تقبع على موارد مؤكدة تزيد قيمتها على 6 تريليونات دولار، من تلك الخامات. في المقابل لا تزال الصين تسيطر على جزء كبير من استخراج هذه الموارد، بل لقد اضطرت واشنطن لتقديم تنازلات كبيرة للصين حينما قيّدت بكين تصدير هذه الخامات.
بالنسبة للنخب الباكستانية، تُعدّ تلك الاستثمارات الأميركية التي تصل إلى ما يقارب تريليون دولار حالياً طوق نجاة إجبارياً للأزمة الاقتصادية في البلاد، خصوصاً بعد أن حصلت على ميزة أقل التعريفات على صادراتها للسوق الأميركية الهائلة.
وبعد، فلقد استعاد الطرفان تعاونهما في مجال مكافحة الإرهاب، خصوصاً بعدما أدرجت وزارة الخارجية الأميركية في أغسطس (آب) الماضي، «جيش تحرير بلوشستان»، المناهض للحكومة الباكستانية، بشكل كامل في عداد المنظمات الإرهابية الأجنبية. ومن اللافت أن الشركات الأميركية ستوظف ملياراتها في هذا الإقليم بالذات.
في المقابل، ستُعزز الاستثمارات الأميركية الضخمة الشراكات التقنية والاقتصادية مع المؤسسة العسكرية والأمنية الباكستانية، التي تتمتع بدور كبير في الاقتصاد القومي.
وبعد، فإثر جهود حثيثة لتحييد الهند بعيداً عن روسيا، تجد الدبلوماسية الأميركية نفسها مرتاحة لتنويع صفقاتها مع باكستان.
لكنها تُدرك بشكل واضح المخاطر والاختلالات الناجمة عن ذلك.
فلقد فرض الرئيس ترمب تعريفات باهظة تصل إلى 50 في المائة على الواردات الهندية، الأمر الذي يلقي بظلال شك عميق في نيودلهي حول مستقبل المشروعات التصنيعية العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة التي تُشكل حجر الزاوية في العلاقة بين البلدين.
إلى الآن لا يزال من الممكن القول إن الإدارة الأميركية تُعاين بدقة محور واشنطن إسلام آباد في سياق جهود الاحتواء الاستراتيجي لنيودلهي في علاقاتها مع موسكو وبكين.
وترى أوساط نافذة في واشنطن أن نجاح «خيار باكستان» مرهون باتخاذ سياسات إيجابية مقرونة بإغراءات جدية نحو الهند، وضمان حماية مصالحها إن كان المطلوب إبعادها عن محاور التنافس مع القوى الدولية، مثل الصين وروسيا. ولا شك في أن تآكل الثقة بين الولايات المتحدة والهند وصفة حتمية لفشل المشروع بمجمله. بل تسعى الولايات المتحدة لاستكمال عناصر قوسها الاستراتيجي بحياكة تحالفات نشطة مع بنغلاديش وسيريلانكا ونيبال بوصفها نسيجاً ضاماً يحمل لسلاسل التوريد البحرية الشاملة.
وفي مكان آخر، يتمتع الجيش الباكستاني في غرب المحيط الهندي بعلاقات قديمة وعميقة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر على مدى عقود، خصوصاً بعد أن وقّعت الرياض وإسلام آباد اتفاقية دفاع مشترك تُضفي طابعاً رسمياً على علاقات وطيدة تمتد لعقود.
ورغم ذلك يتسم هذا التوازن الوليد الجديد بكونه غاية في الدقة والحراجة، ويحمل الكثير من المفاجآت المفتوحة.