ليلى أمين السيف
ليس كل صمتٍ حكمة، ولا كل عتاب شجاعة.بين التغافل والعتاب مساحة دقيقة لا يتقنها إلا من عرف نفسه، وقدّر قلبه، وفهم طبيعة العلاقات الإنسانية.
التغافل خُلُق نبيل حين يكون اختيارًا واعيًا، لا هروبًا ولا قهرًا.أن تتجاوز زلّة لأنك قادر على تجاوزها، ولأن قلبك أوسع من الخطأ، ولأن العلاقة تستحق السلام.
أما التغافل الذي يُراكم الألم، ويحوّل الصدر إلى مستودع صامت للوجع، فليس فضيلة، بل إنهاك بطيء. والعتاب هنا ليس سوء خُلُق كما يظنه البعض، بل هو في جوهره طلبُ بقاء صادق. وللمرء الحق في أن يعاتب إن كان حريصا على بقاء العلاقة وسلامة شعوره الداخلي، أو لأنه يريد تصحيح المسار لا كسره، ولأن الصمت أحيانًا قد يُفهم رضًا، بينما الكلام يضع حدًّا واضحًا لما يؤلم.
بين الصمت والكلام مساحة اسمها الحكمة. حُسن التصرّف أن نعرف متى نتغافل، ومتى نتكلم. علينا أن نسأل أنفسنا بصدق:هل أستطيع تجاوز هذا الأمر دون أن يثقل قلبي؟
أم أن السكوت سيحوّلني مع الوقت إلى شخص متعب، بارد، أو قاسٍ؟
إذا اخترنا التغافل، فليكن تغافلًا كاملًا، بلا تذكير، ولا محاسبة لاحقة، ولا عودة إلى الجرح كلما اختلفنا. وإذا اخترنا العتاب، فليكن مرةً واحدة، بهدوء، وبنية الإغلاق لا الإدانة، وبكلمات لا تحمل تاريخًا طويلًا من اللوم.
الخطأ أن نصمت طويلًا ثم نتكلم بعنف، والأصعب أن نعاتب ثم نفتح الجرح كل مرة، فنفقد أثر العتاب ومعناه.
في العلاقات السليمة، لا يُطلب من أحد أن يتحمّل فوق طاقته،ولا يُطلب من الآخر أن يكون كاملًا.المطلوب فقط قدر من الصدق، ومساحة من الرحمة، وحدود تحفظ الود ولا تُلغيه.
التغافل فن، والعتاب أيضا فن، وأجمل العلاقات هي تلك التي تُدار بحكمة. صمتٌ حين يكون الصمت سلامًا، وكلامٌ حين يكون الكلام شفاءً.
فليس من النبل أن نكسر أنفسنا باسم التسامح، ولا الحكمة أن نخسر الناس باسم الصراحة، بل النبل الحقيقي أن نحسن التصرّف بينهما.
(المتغافل) وليس الغبيُ بسيدٍ في قومه ولكن سيد قومه المتغابي!
وختامًا، لنتعلّم أن نتغافل حين يكون التغافل سلامًا، وأن نعاتب بروح حيّة لا بروحٍ مثقلة بالحساب.
فليست كل زلّة جديرة بالوقوف، ولا كل كلمة تستحق أن تتحوّل إلى مواجهة.لا تُكثر العتاب؛ فالإفراط فيه يُفسد الود، ويحوّل القرب إلى ثِقَل، حتى يصير الحب نفسه عبئًا.
وإن كان لا بدّ من العتاب، فليكن عتابًا حنونًا، لا قاسيًا، صادقًا لا جارحًا، يُقال في وقته، وبأسلوب يحفظ الكرامة ولا يكسر الخاطر.
ولنتذكّر أن للناس مشاعر وأحاسيس، وأن الكلمة قد تداوي كما قد تجرح.وأجمل العلاقات لا تقوم على المحاسبة الدائمة، بل على ابتسامةٍ تُطفئ حدّة الموقف، وتغافلٍ يحفظ الود، وتفاعلٍ صادق يُبقي القلوب قريبة حتى حين تختلف.
** **
- كاتبة يمنية مقيمة بالسويد

