من المدهش أن يظلّ التاريخ العربي يُتلقّى في الغالب على هيئة حكاية، وكأنّ السرد في ثقافتنا كان دائمًا الوسيط الأسبق للفهم والتأويل، فقبل أن نعرف الوثيقة أو المنهج النقدي، كانت الذاكرة الشفوية هي المؤرخ الأول، والراوي هو الحافظ للزمن، وهذا ما يجعل العلاقة بين التاريخ والرواية في الثقافة العربية علاقةً إشكالية ومفتوحة، تستدعي إعادة النظر في السؤال الكلاسيكي: هل الرواية وافدة إلينا أم منبثقة منا؟
لقد جرى تكريس فرضيةٍ شائعة في الدراسات الأدبية مفادها أنّ الرواية العربية بدأت برواية زينب لمحمد حسنين هيكل سنة 1917، وهي مقولةٌ ما تزال تتردد في المناهج الجامعية بوصفها حقيقة تأسيسية، على الرغم من أن هناك إشارات إلى روايات سبقتها مثل «غادة الزهرة» لزينب فواز (1899) أو «حتى الساق على الساق الحديثة» لأحمد فارس الشدياق (1855)، غير أنّ كل هذا التحديد الزمني يتجاهل جذور السرد العربي الأقدم، ويتعامى عن الأشكال الحكائية التي سبقت هذا العمل بقرون، سواء في التراث الشعبي أو الفلسفي أو الصوفي، إنّ الاقتصار على زينب بوصفها «البداية» يعكس أثر الاستشراق في النظر إلى الأدب العربي بمعيار النموذج الغربي للرواية الحديثة، حيث تُقاس الشرعية الفنية بمدى التطابق مع القالب الأوروبي، لا بمدى انسجامها مع خصوصية التجربة السردية المحلية.
فمنذ الأساطير العربية قبل الإسلام، مرورًا بالسير البطولية كـعنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن، وصولًا إلى النصوص الفلسفية كـحي بن يقظان لابن طفيل ورسالة الغفران للمعري، نجد أنّ العرب مارسوا شكلاً متقدّمًا من الكتابة السردية، يقوم على البنية الحكائية، والتعاقب الزمني، وتنامي الحدث، وتطور الشخصية، أي العناصر الجوهرية التي تُعرّف الرواية الحديثة، بل يمكن القول إنّ هذه النصوص قدّمت نماذج سردية تمتح من الميثولوجيا والفكر والتجربة الوجودية في آنٍ واحد، بما يجعلها أكثر عمقًا من الرواية الواقعية الأوروبية في بعض مراحلها.
لكنّ التحقيب الأدبي العربي ظلّ أسير المركزية الأوروبية التي تحدد لحظة الميلاد وفقًا لتاريخ وصول التأثير الغربي، وهنا تنشأ إشكالية «استغراب الرواية» مقابل «استشراق التاريخ» فبينما انشغل الغرب بتأريخنا وفق سرديته الخاصة، انشغل بعض نقادنا بمحاكاة سرد الغرب بوصفه النموذج الأعلى، وقد أدى هذا التواطؤ المعرفي إلى طمس جوهر التجربة العربية في السرد، الذي لم يكن يومًا ترفًا أدبيًا، بل آليةً ثقافية لحفظ الذاكرة وإعادة إنتاج الوعي الجمعي.
إنّ الرواية ليست في أصلها شكلًا أدبيًا فحسب، بل هي نظام للتفكير في الزمن والحدث والإنسان، والتاريخ كذلك في جوهره سردية كبرى تتوالد منها حكايات البشر، ومن هنا يمكن القول إنّ العرب لم يكونوا غرباء عن فن الرواية، بل مارسوه قبل أن يُصاغ كمفهومٍ نقدي فـ»الرواية» في صورتها العربية الأولى كانت التاريخ ذاته، ترويه الألسن وتحفظه الصدور، وتعيد تشكيله المخيلة في كل جيلٍ بطريقةٍ مختلفة.
ولعلّ هذا ما يفسّر أن الحكاية في ثقافتنا لم تكن مجرّد ترفٍ أو تسلية، بل أداةً معرفية تؤسس للهوية وتعيد تأويل الزمن، لقد أنتجت الذاكرة الشفوية «روايات» يومية عن الأبطال والقبائل والأنبياء والمتصوفة، حتى غدت الرواية عند العرب ممارسةً اجتماعيةً قبل أن تكون جنسًا أدبيًا.
وعليه، فإن الحديث عن «أول رواية عربية» لا ينبغي أن يُختزل في تاريخ النشر، بل في تاريخ الوعي السردي، فالرواية ليست ابنة المطبعة، بل ثمرة وعيٍ سرديٍّ تراكميٍّ بدأ منذ لحظة الحكاية الأولى، وإذا كنا اليوم نقرأ التاريخ بعيون الروائيين، فلأننا روينا تاريخنا منذ البدء بعيون الشعراء والرواة.
إنّ العلاقة بين الرواية والتاريخ في الثقافة العربية ليست علاقة تأثّرٍ وتبعٍ، بل علاقة تطوّرٍ طبيعيٍّ لوعيٍ قديمٍ بالحكاية بوصفها طريقة لفهم الوجود، وما لم نتحرّر من المركزية الغربية التي تصرّ على منحنا «شهادة ميلاد» للرواية، سنبقى نعيد سرد تاريخنا بلسان غيرنا، بينما تكمن روايتنا الحقيقية فينا منذ قرون، تنتظر أن تُكتب من جديد لا لتبدأ، بل لتُستعاد.