إنَّ للصوصيَّة تاريخاً عريقاً، ولنا اعتبارها أول مهنة في التّاريخ، بالفائدة مِن أستاذتنا الأديبة والباحثة العراقيَّة سلام خياط (ت: 2024)، وكتابها المعروف، عن أول مهنة في التَّاريخ، وهي عندها غير اللُّصوصيَّة.
كان البحث في فئة اللصوص مشوقاً، وإصدار كتاب عنهم «لُصوص الأموال ومنتحلو النصوص»، استوقفني فيه أنَّ قصراً ظل اسمه متداولاً في كتب البلدانيين والمؤرخين بـ «قصر اللصوص»، إلى جانب اشتهار أمكنة عديدة بهذه النسبة وهذا المُسمَّى، وظلت حتى بعد زوال السَّبب، ففي يومٍ اتَّخذها اللُّصُوصُ أوكاراً لهم، يأوون إليها في النَّهار، وينطلقون منها تحت جنح الظَّلام، وعادةً تكون مكاناً للانسحاب عند المطاردة، ومكاناً للراحة، والأهم أنها أماكن أمينة مِن مطاردة السُّلطان، وملاحقة المنكوبين بسرقة أموالهم، وتحمي اللُّصُوصَّ مِن لصُوص آخرين، فالمنافسة والغارات والثَّارات على أشدها بينهم البين، ذلك إذا علمنا أنَّ اللصُوصَّية، جماعاتٍ وتنظيماتٍ وأحزاباً، لهت رؤساء وزعامات.
جاء خبر قصر «اللصوص» أنَّ الخليفة العبَّاسيّ هارون الرَّشيد (ت:193هج) نزله، وهو في طريق عودته مِن الرَّي إلى بغداد (الدَّينوريّ، الأخبار الطُّوال)، ووصف بأنه «قصر مِن حِجارة على أسطوانات وأعمال عجيبة»، وهو «منزل في الجبال» (البشاري، أحسن التَّقاسيم).
تردد اسم «قصر اللُصوص» في أخبار المعارك بين بغداد وخراسان، الحرب بين الأخوين ابني الرّشيد: المأمون (ت:218هج) والأمين (قُتل:198هج). عندما أمر الأَمين مَن أرسله لقتال أخيه المأمون، وهو بخراسان، النزول بـ «قصر اللُّصُوص» (الطّبري، تاريخ الرُّسل والملوك)، وما لقب «القصري» إلا نسبة له (السَّمعاني، الأنساب)، وأن وجهاء توفوا فيه، يُفهم أنه كان مكاناً مأهولاً بالمقيمين والمارّين به، فهو مرحلة للقوافل على طريق فارس- العراق. هناك مَن ذكر القصر ضمن رساتيق (قُرى) أصبهان (ابن خرداذبة، المسالك والممالك).
لكنّ لماذا سُمي هذا القصر واشتهر بـ «قصر اللُّصُوص»، وما فيها مِن عجب، أنَّ قصوراً تنسب لهذه الفئة المنبوذة والمطاردة؟! ونجدها غرابةً، أنْ يبقى اسم اللُّصُوص عنواناً لهذا القصر على مرّ الزَّمن! قيل سُمّي بقصر اللصوص خلال التَّقدم نحو فتح بلاد فارس، وكانت تلك السَّنة (22هج)، لما نزل المسلمون في «كنكور سُرقت دوابّ مِن دواب المسلمين، فسمّي قصر اللُصُوص» (الطَّبريّ، نفسه).
يغلب على الظَّن، لم يكن أولئك اللصوص أكثر مِن فئة منبوذة، مُطارَدة مثلما تقدم، ولم يؤسسوا حكماً مركزه ذلك القصر، وليسوا لصوصَ علانية، بل كانوا خائفين مِن القطع، ومَن يُقطع بالسّرقة يظل مُلقّباً بالأقطع، وإن تاب توبةً نصوحاً.
ما يُستغرب له، ظل لقب «القصريّ» ملازماً لمن أقام أو مرَّ بقصر اللُّصوص، وإلا العباسيون اتَّخذوا قصرَ آخر والٍ أمويّ على العِراق، يزيد بن هُبيرة (قُتل: 132هج)، عاصمة، وكان معروفاً باسم «قصر ابن هُبيرة»، فسمُّوه بـ «الهاشميَّة»، نسبة إليهم فهم الهاشميون، لكنّ النَّاس ظلوا يسمونه باسمه الأول، فضاق مِن ذلك أبو جعفر المنصور (ت: 158هج)، فاعتبر هذا تذكاراً لعدوه، وفألاً نحساً عليه ودولته، فتحول مؤقتاً إلى مكان آخر، حتَّى اتَّخذ بغداد عاصمةً (145هج).
أما القصر الذي نحن بصدد ذِكره، فكان مِن القصور الملكيّة، وبعد إهماله، نُسي اسمه الأول وعُرف بـ «قصر اللصوص»، حينما صار داراً لهم، كذلك اختفى اسمه الآخر «قصر شِيرين»، وبعد حين عاد الاسم إلى شيرين، وقيل كانت شِيرين جارية الملك (الحموي، معجم البلدان)، ويُعرف اليوم بهذا الاسم.
على أيّ حال، لم يكن اللُّصوص، الذين صاروا عنواناً لهذا القصر الفارِه، أهل سُلطة، ولم يرغبوا أنّ يكونوا كذلك، ففي وصولهم إليها ستكون كلّ القصور قصورهم، ويضطرون إلى قطع أيدي مَن يخالفهم، حتّى وإن كان عابداً ورعاً مثل أبي الخير التّيناتي (ت: 347هج)، وكان لا يأكل إلا ما يتساقط مِن الأشجار، ومع ذلك قُطعت يده بشبهةٍ، فُعرف بالأقطع (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء)، إذا كان للُصوص الأمس قصراً، فلهم قصورٌ اليوم، وقد يكون للمُراءاةِ «... على أبوابها البؤسُ طافحٌ/ وفي داخلهنَّ الأنسُ والشّهوات». *كاتب عراقي