: آخر تحديث

ما بين الفلسفة والعلم

2
1
2

العلم والفلسفة أيهما أسبق على الآخر؟، وسؤال الأسبقية لا يتعلق بالريادة التاريخية فقط بل يتعلق وهو الضروري «باستدامة الأهمية».

وإذا كان «لكل علم جوهر» فالفلسفة باعتبارها مصدرا كل جوهر وهي التي تتحكم في الريادة واستدامة الأهمية بصرف النظر عن مساحات تواجدها عبر الزمن فتراجع مساحتها ليست دلالة نفي أو اندثار.

ولذا يرى طه عبدالرحمن في كتابه «فقه الفلسفة» أن البحث في ماهية الفلسفة هو علم بذاته، وقد أطلق عليه اسم»علم أصول الفلسفة».

لكن حكاية هذه الجدلية لا تنتهي عند عتبة الاعتراف السابق؛ باعتبار أن «الجوهر يمثل دلالة، لكنه لا يمثل تأثيرا» فالعلم هو الذي يمثل التأثير؛ أي «الفعل».

وبسبب هذه الجدلية تصدى بعض المفكرين من خلال دراسات إلى التفريق بين الفلسفة والعلم، فيرى «غاستون باشلار» بأن الفلسفة هي طريقة التفكير الإبداعية و بذلك فهي الربط بين العقل والتجربة، فالعلم في رأيه يحتاج إلى «فلسفة مزدوجة القطب».

وبذلك يؤسس لمصطلح جديد القطبية الابيستيمولوجية يجمع في هذا المصطلح بين «العقلانية ممثل الفلسفة والتجريبية ممثل العلم» ومع هذا التوازن الذي يبرزه مصطلح باشلار إلا أنه يرفع الاتجاه العقلي درجة على الاتجاه التجريبي؛ «فنحن نفكر أولا ثم نختبر».

كما أن باشلار حتى يوثق أسبقية الاتجاه الفكري يرى أن «الظاهرة المنتظمة التي تشكلها الفلسفة أكثر ثباتا من الظاهرة الطبيعية لكون الظاهرة الطبيعية قابلة للتغيير وخاضعة لمعايير الصواب و الخطأ».

كان المنهج التجريبي الذي أسسه «فرانسيس بيكون» في القرن السابع عشر والذي يعتمد على أربعة أسس هي «الملاحظة و الفرضية والتجربة و القانون» ثورة في المجال العلمي وصفعة على خدّ الفلسفة وسحب الصفة المعرفية منها.

صحيح أن الفلسفة تقوم على الملاحظة و تشكيل الفرضيات كمصادر لتفسير الظواهر وهو التمهيد الصحيح للعلم، ولذلك عدّ باشلار الفلسفة أساس العلم، إلا أنها لا تقدم أدوات التجربة التي تحلل صحة الفرضية وتمكن لها صفة الحيوية ولا تٌشرع القوانين ذات الخلفيات الحيّة مثل العلم، بل تعتمد على الاستنتاج

والاستنباط كأدوات لتحليل صحة الفرضية.

يسحب العلماء صفة العلمية عن الفلسفة؛ لأنها لا تحتكم على «غاية حقيقية عمليّة» فغايتها «إثارة الأسئلة» ولذلك فلغتها وصفية تعبيرية، وليس استنتاج قوانين عامة تُعرف الناس بطبيعة تشكيل الظواهر الطبيعية في صيغ رقمية بعيدا عن الفضفضة الوصفية والاستعارية والخطابية، وبالتالي إنتاج معرفة تراكمية تُسهم في استدامة تطوير المجتمع الإنساني.

لكن أنصار الفلسفة يرون أن هذا الادعاء غير صحيح «فإثارة الأسئلة وطرحها ليست أدوات تأمليّة فقط بل هي محفزات للتفكير الإبداعي ومفاتيح لصناعة العلوم.

كما أن للفلسفة مساهمات عديدة في تطوير المجتمع الإنساني أخلاقيا و فكريا وتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع والتي أسهمت في تأسيس الدساتير الإنسانية و تشريع القوانين الاجتماعية.

كما يرى أنصار الفلسفة بأن لكل علم أصله الفلسفي هذا المبدأ الذي بني عليه باشلار نظريته فلسفة العلم،وهو ما يعني أنه إذا كانت الفلسفة هي مؤسسة العلوم فهي تستطيع أن تكون رديفا لتطوير تلك العلوم وليس تمثيلا لحقبة زمنية.

وعندما نقف عند الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه مدخل إلى فلسفة العلوم، نجد أنه يقدم مقارنة بين المعرفة الفلسفية والمعرفة العلمية ،أو كما يٌسميها «المعرفة في الفلسفة التقليدية التي هي من إنتاج الفلاسفة وبين نظرية المعرفة العلمية التي هي من إنتاج العلماء».

فالمعرفة في النظرة الفلسفية تتناول «البحث عن حلول للمشاكل في كليتها» لكن العلم يهتم ببحث «المشاكل التي تتعلق بالموضوعات الخاصة بالعلم» والتي تخضع للمراقبة والتحقيق والاختبار»ص38.

وعندما نتوقف عند الغذامي في كتابه «العقل المؤمن والعقل الملحد» نرى أنه يُضيف إلى هذه الثنائية الجدلية طرفا ثالثا وهو «الإيمان» فهل الإيمان يميل إلى الفلسفة أم إلى العلم؟.

فهو يرى أن العلم كنظريات وجودية في ذاتها،»قد هزّت فكرة الإيمان»،فالعلم يرى أن الوجود هو إله في ذاته، وهذه الرؤية تتعارض مع فكرة الإيمان بأن الوجود هو مؤشر لوجود الإله.

والعلم في اتجاهه الاغلاقيّ لفكرة إن البحث في ما وراء الحواس والإدراك والمعادلات الرياضية لا قيمة علميّة له؛ لأنه غير خاضع للتجربة والاختبار، جعل الإيمان يصطدم بالنظريات العلمية، في حين أن الفلسفة في اتجاهها الانفتاحي لا تعلق فكرة الحقيقة بكل ما يمكن تجربته واختباره.

ولذلك يرى الغذامي أن الفلسفة عبر الأسئلة «تعيد التوازن «لربط الإيمان بالعلم، فالعلم رغم تطور اكتشافاته إلا أنه لم يتمكن من كشف «حلّ حقيقة الإيمان» وأن السبيل لحلّ هذه الحقيقة هو «المبحث الفلسفي».

فالغذامي يذهب إلى أن الإيمان أقرب إلى الفلسفة؛ لأنها مصدر مستدام لإنتاج الأسئلة، والسؤال غالبا ما يقود إلى الإيمان، منه إلى العلم الذي يصادر كل سؤال لا يلتزم بشروط المنهجية العلمية.

وستظل جدلية الفلسفة والعلم حيّة مادام هناك أنصار للفلسفة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد