: آخر تحديث

أروحلج فدوة

1
1
1

ليلى أمين السيف

ليست لهجة فحسب.. بل أنين وطن، وضحكة أم، وشهقة عاشق في آخر الليل.

اللهجة العراقية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل كائن حي، فيه نبض، وفيه حرارة، وفيه من الحنين ما يكفي لإغراق الذاكرة.

«أحبج هوايا»

تكلّم بها عراقي، فاهتزّت الأبجدية احترامًا.

قال: «أروحلك فدوة».. فانخلع قلب اللغة العربية خجلاً.

ما هذا الكرم؟ ما هذا الاستعداد للموت حبًا؟

العراقي لا يجامل، لا يدّعي، إذا قال فدوة، فهو يعنيها بكل خلجات روحه.

تقول له: «اشتقت»، فيرد: «ردت روحي بشوفتك».

تتوه بين المعنى والدمعة، فلا تدري أتبكي شوقًا؟ أم تخجل من هذا العطاء اللغوي الفائض؟

وتسمعه يهمس: «تدلل عيني».

فتتحسس عيونك، خجلًا من عيونٍ تُؤمر ولا تُعصى.

إنه لا يقول: حاضر، بل يفتح لك نوافذه كلها، من حدقة عينه إلى ضلوعه.

في العراق، حتى الغزل مختلف.

وجهك كنه العافيه..

ليس غزلاً، بل ذوبانًا لغويًا،

صوتٌ يُذيب المعنى حتى يُصبح نغمة.

تسمع العراقي يغني؟

لا، بل ينوح نغمةً، يسكب دمعه في الكلمات، ويعلّق آهاته على حبال المقامات.

«سولفلي بعد أكثر، بعد ما شبعت صوتك»

يا الله! أي صوت هذا؟

من أي حنجرةٍ تسلّل الحنين وطرق باب الذاكرة؟

كل كلمة في الأغنية العراقية، تُخاطبك بالاسم، تشبهك، تعنيك، تبكيك.

..»مكانك خالي»

جملة تهزّ الروح.

تشعر أنها لا تُقال، بل تُصرخ بصمت.

تُرسلها أمٌ لابنها المسافر،

عاشقٌ لحبيبه الغايب،

وطنٌ لأهله المهاجرين.

واللهجة العراقية، ليست مجرد تعبير عابر.

إنها حالة..

حالة من الحنية، والفداء، والدلع، والمواساة، والحكمة الشعبية

حين يقول لك العراقي: «ينحط عالجرح ويطيب».

لا يمدح فقط..

بل يصف إنسانًا يُشبه البلسم، يُشبه الطيبين الذين كانوا، والذين لا يُعوّضون.

وإذا أراد أن يعاتب، عاتب بأدب،

«زعلت، بس ما أحچي»

فيجعل ذنبك يغصّ فيك، بدون أن يصرخ.

وإذا غضب؟

يا ساتر..

الغضب العراقي أيضًا شاعري!

«كَلتلك لا تعيدها، بس بعدك على راسي»

أي لغة هذه التي تصون الكرامة وتبقي المحبة في الوقت نفسه؟

أما إذا أحبك،

فاستعد لتعيش في جنة الكلام:

«بيا ولا بيك»

«فدوة الك»

«تدلّل حبيبي»

«عيوني إلك»

«أموت عليك»

نعم، هم لا يقولون «أحبك» فقط، بل يربطونها بالموت، كأن الحب لديهم يبلغ أقصاه حتى الفناء.

حتى شعرهم..

حين يكتب العراقي شعرًا،

لا يُمسك القلم، بل يمسك قلبه، ويعصره على الورق:

«هلي طيبين بس الله..بلاهم

كرام الدنيا ماتسوا.. بلاهم

ياربي ارجوك عيشهم.. بلا هم

هلي اكرام رديه مابيهم»

هذه ليست كلمات، بل عاصفة وجدانية تمرّ من فم الشاعر إلى قلوب المستمعين، دون أن تستأذن.

لهذا، لا تُدهش إن قالوا:

«إذا أردت أن تكون شاعرًا، فتحدّث كعراقي.»

أو بالأحرى: حسّ كعراقي.

معرفتك بشخص عراقي.. كأنك لامست نبض الرافدين، كأنك استنشقت عبق بغداد، وتوضأت من دجلة، وتدفأت على ضوء نخل البصرة.

كأنك زرت العراق كله، شارعًا شارعًا، روحًا روحًا، عشقًا عشقًا.

كأنك أحببت العراق في ملامحه ولهجته وأغانيه وشمسه وغباره وماءه وملحه.

فالعراق لا يحتاج أن تطأه قدماك، يكفي أن يُلامس قلبك مرة، لتصبح من أهله.

يكفي أن تذوب بنبرة «فدوة» أو تنكسر أمام «مكانك خالي» لتدرك أن للعراق حزنًا شريفًا، وكرامة لا تُشترى، وحبًا لا يُنسى.

وتبقى الحقيقة الثابتة: أننا تعلمنا من اللهجة العراقية أن الكلام ممكن أن يُضمّد،أن العتاب يمكن أن يُقال بابتسامة،وأن الشوق له ألف لهجة، لكن أعذبها.. عراقيّة.

والحقيقة بلا تحييز فإن اللهجة العراقية..

لا تُكتب بماء الحبر،

بل بدم القلب.

اللهجة العراقية ليست حروفًا تُرتّب، بل عواطف تُسكب.

كل كلمة تُقال، خلفها قلب ينبض، وجرح قديم، وحنين مقيم، وكرامة لا تموت.

من بغداد إلى البصرة، من أربيل إلى الناصرية.

اللهجة ليست فقط تنوّعًا لفظيًا، بل تنويعات على وتر واحد:

وتر المحبة.

ولو كان للقلوب وطن، لارتوت بالعراق نبضًا ومحبّة،

ولو كانت عزة النفس تُغرس في تربة، لأنبتت أرض العراق كرامة لا تذبل.

العراق ليس فقط اسمًا على خارطة، بل دفءٌ في الوجدان، وشموخٌ لا يُهزم.

هو الزاد حين تجوع الأرواح،

وهو الوطن حين تتيه القلوب.

وإذا اختنق الحرف، فالعين تتكلم.. والعراق لا يُكتب، بل يُحسّ في نبض القلب.

فديتج يالعراق..

فدوة لطيبة هالناس، لنُبل كلماتهم، لصدق لهجتهم، ولحنيّة أرواحهم.

ختامًا.. لا الكلمات تُوفي، ولا المشاعر تهدأ، فالعراق يسكننا بأكثر مما نسكنه وعندما نتحدث عن الختام، فليس هو نهاية الكلام، بل بداية الحنين.

تبقى الكلمة الأخيرة همسًا من الروح:

سلامٌ على أرضٍ تنبتُ المجد إن ماتت الكلمات

سلامٌ على نخيله، على دجلة والفرات،

العراق ليس أرضًا فقط، بل هو امتحان للمحبة، ومن يُحب العراق حقًا.. لا ينسى، ولا يخون، ولا يخذل.

هو الوطن الذي كلما اغتربتَ عنه، سكنك أكثر.

وكلما تقادم الزمن، صار في القلب أوطد.

فليحفظ الله العراق..

أرضًا وشعبًا وكرامةً لا تنحني.

** **

- كاتبة يمنية مقيمة في السويد


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد