كلما اقترب موعد انتخابات ساحل العاج، المقررة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، عاد الحديث مجدداً عن هشاشة التجربة الديمقراطية في هذا البلد الذي ظلّ، خلال العقدين الماضيين، نموذجاً للتأرجح بين الآمال والإخفاقات.
الانتخابات هنا ليست مجرد تمرين ديمقراطي دوري، بل هي اختبار وجودي لمدى قدرة الدولة على إدارة تنافس سياسي مشروع من دون الانزلاق إلى العنف. تجربة 2010 ما زالت عالقة في الأذهان، حين تحولت صناديق الاقتراع إلى مدخل لصدام دموي بين معسكريْ لوران غباغبو والحسن واتارا، وهو جرح لم يلتئم بعد. واليوم، مع استحقاق 2025، تتكاثر الأسئلة حول ما إذا كانت الطبقة السياسية في أبيدجان قد استوعبت دروس الماضي، أم أن البلاد ستعيد إنتاج الحلقة نفسها من الأزمات المرتبطة بالحوكمة الدستورية، والتداول السلمي على السلطة.
أول التحديات التي تواجه الانتخابات المقبلة يتعلق بالثقة المفقودة بين المعارضة والسلطة. فالمعارضة لا تكفّ عن اتهام اللجنة المستقلة للانتخابات بأنها أداة في يد الحزب الحاكم، بينما يؤكد الرئيس الحسن واتارا وحزبه «التجمع من أجل الديمقراطية والسلام» (RHDP) أن المؤسسات قائمة على شرعية دستورية. هذه الفجوة في الثقة تعني عملياً أن أي نتيجة ستكون عرضة للتشكيك، وهو ما يجعل احتمال الطعن في النتائج كبيراً، بل ربما الاحتكام مجدداً إلى الشارع، كما حدث غير مرة.
التحدي الثاني ذو طابع اجتماعي اقتصادي. فالتفاوتات بين المدن الكبرى مثل أبيدجان، والمناطق الداخلية المهمشة، تُغذي شعوراً عميقاً بالغبن. الشباب، وهم يشكلون الكتلة الانتخابية الأوسع، يعانون البطالة وضعف الفرص الاقتصادية، ما يجعلهم عرضة للانجذاب إلى الخطابات الراديكالية أو الوعود الشعبوية. هذه المعطيات تجعل أي انتخابات مرشحة لأن تتحول إلى مناسبة لتفريغ الاحتقان الاجتماعي، وليس فقط للتعبير عن الإرادة السياسية.
في هذا السياق لا يمكن إغفال البعد الأمني. فمع تنامي الخطر الإرهابي القادم من حدود مالي وبوركينا فاسو، تبدو قدرة الدولة على تأمين العملية الانتخابية موضع شك. هجمات متفرقة شهدتها السنوات الأخيرة تؤكد أن الاستحقاق لا يجري في بيئة مستقرة بالكامل، وهو ما يفرض تحديات إضافية أمام الحكومة والمعارضة معاً.
لكنّ المعضلة الكبرى تبقى متمثلة في تشرذم المعارضة. مشروع «التحالف من أجل التناوب السلمي» (CAP-CI)، الذي ضمّ الحزب الديمقراطي الإيفواري (PDCI)، وحزب الشعوب الأفريقية-ساحل العاج (PPA-CI) بزعامة غباغبو، وحزب «الأجيال القادرة» (MGC) بقيادة سيمون إهيفيت غباغبو، بدا في البداية كأنه بارقة أمل لتشكيل جبهة موحّدة في مواجهة الحزب الحاكم. غير أن هذا المشروع لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما انسحبت سيمون غباغبو من موقعها كناطقة باسم التحالف، لتتفرغ لحملتها الخاصة، في خطوةٍ فسّرها كثيرون على أنها إعلان وفاة للتحالف قبل أن يولَد فعلياً.
سيمون غباغبو، السيدة الأولى السابقة، تُواصل فرض حضورها السياسي بخطاب حاد وكاريزما لافتة. ردها الأخير على المحامي الفرنسي اللبناني روبرت بورجي، حين دعاها للتخلي عن الترشح، كان رسالة واضحة بأنها لا تنوي التراجع. وهي تراهن على رصيدها النضالي، وعلى تحالف مرتقب مع شارل بلي غودي، رئيس «مؤتمر العدالة والمساواة بين الشعوب»، الذي يُتوقع أن يعلن رسمياً دعمه لها. هذا التحالف قد يمنحها زخماً انتخابياً بين الشباب، لكنه لا يغيّر المعادلة الكبرى: المعارضة مشتتة، والسلطة متماسكة، وفي تماسكها الظاهري تلعب على تأويل دستور 2016 المعدَّل لمنح واتارا فرصة إضافية للحكم.
المفارقة أن المعارضة تُضعف نفسها أكثر مما يُضعفها الحزب الحاكم. كان من المنطقي، بعد استبعاد أسماء وازنة مثل لوران غباغبو وتيدجان تيام، أن تلتف الأحزاب حول مرشح واحد قادر على منافسة واتارا. لكن الحسابات الشخصية طغت، فتحوَّل كل حزب إلى جزيرة منفصلة. النتيجة هي أن صورة المعارضة في أعين الرأي العام باتت تفتقد المصداقية والقدرة على تقديم بديل جاد.
هذه الانقسامات تعطي الحزب الحاكم أفضلية واضحة. فواتارا، رغم الانتقادات التي تطوله، يستفيد من ماكينة حزبية وإدارية قوية، ومن موقعه كرمز للاستقرار النسبي بعد عقد من النمو الاقتصادي. وفي مواجهة معارضة مفككة، تبدو حظوظه قوية في الحفاظ على مقاليد الحكم.
يبقى السؤال الجوهري: هل تستطيع ساحل العاج أن تُجري انتخابات مقبولة النتائج، وتضمن أن يقبل الخاسرون خسارتهم؟ فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بمن يفوز، بل بكيفية إدارة ما بعد إعلان النتائج. إن قبول الهزيمة هو العلامة الفارقة بين ديمقراطية ناضجة وأخرى شكلية.
ساحل العاج، بما تُمثله من ثقل اقتصادي في غرب أفريقيا، لا تحتمل عودة الفوضى كما حدث في 2010 و2011. استقرارها ركيزة لاستقرار الإقليم بأكمله، وأي انزلاق جديد ستكون كلفته باهظة داخلياً وإقليمياً. من هنا، فإن الانتخابات المقبلة ليست شأناً إيفوارياً خالصاً، بل قضية تهمّ غرب أفريقيا كلها.