عبدالرحمن الحبيب
بهذا العنوان السلبي افتتحت مجلة فورين بولسي تقريرها، وبمقال آخر لا يقل تشاؤماً بعنوان « نهاية التنمية» لمدير المعهد الأوروبي بجامعة كولومبيا آدم توز، وذلك قبيل افتتاح الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الذي يناقش أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، والتي كانت قبل عشر سنوات مفرطة في التفاؤل بطموحات كالأحلام كالقضاء على الفقر والجوع وتحقيق الصحة الجيدة والرفاهية. فما الذي حدث كي ينقلب الإفراط في التفاؤل إلى هذا الحد من التشاؤم؟
أول ما تصفه مقالة توز عن الحالة بأنها لحظة كوميديا سياسية سوداء في مشهد بدا وكأنه مُعدّ للسخرية، حين أصبحت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة بالجمعية العامة للأمم المتحدة التي صوّتت ضد إنشاء يوم عالمي للأمل ويوم عالمي للتعايش السلمي؛ والأكثر إثارة للدهشة هو الرسالة الرسمية التي طرحتها واشنطن لشرح موقفها من القرار الأخير، إذ إنها لم تنسحب فحسب من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، بل شجبتها أيضًا.
يوضح توز أنه في هذه الرسالة لم يكن هذا مجرد انسحاب، كما هو الحال بالنسبة لالتزامات المناخ الواردة في اتفاقية باريس، بل كان إدانةً واضحةً للطموح الجماعي لتحسين الوضع المادي للبشرية، حيث زعمت الرسالة أن الناخبين الأمريكيين قد أصدروا تفويضًا واضحًا في الانتخابات الأخيرة: يجب على حكومتهم أن تضع أمريكا بالمقام الأول، وأن تهتم بمصالحها الخاصة قبل كل شيء.
هذا يعني أن تقليص المساعدات العالمية ليس خطأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحده، حسب توز موضحاً أن التنمية لطالما كانت مرتبطة بالقوة وبالسلطة أكثر من القيم، وأن صانعي السياسات لطالما أعطوا الأولوية لمصالح الأمن القومي على حساب الإنسانية والمصالح بعيدة المدى للبشر.
في ضوء ذلك، هل يُعدّ تفريغ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مجرد عرَض وليس سببًا لتغير النظام العالمي؟ هل تستطيع الصين سدّ هذه الفجوة؟ وهل تستطيع المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني ملء الفراغ الذي يسببه تراجع بعض الحكومات عن التزاماتها؟ هل يمكن لدول الجنوب العالمي الاعتماد على الذات؟
منذ أن بدأت إدارة ترامب بتفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، رأى العديد من المعلقين فرصة سانحة للصين، ويجادلون بأن بكين «ستملأ الفراغ» الذي خلفته واشنطن، وأنها «تشجع» تدمير هذه الوكالة. وقد شكّل الخوف من أن تحل الصين محل المساعدات الخارجية الأمريكية مصدر قلق متزايد بين المحللين الأمريكيين لسنوات، وفعلاً قد حلت الصين محل مشاريع أمريكية في عدد من الدول.
فهل يمكن للصين أن تحل محل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؟ هذا عنوان مقال لهنري توجندهات من جامعة جونز هوبكنز وجيمس بالمر، نائب رئيس تحرير مجلة فورين بوليسي؛ ويجيبان بأنه لا يمكننا التسرع في افتراض أن الصين ستتدخل لسد هذه الثغرة، على الرغم من أن الصين تبدو وكأنها تغتنم بعض الثمار السهلة في جوارها القريب، إلا أنه من غير المرجح أن تزيد من حجم برنامج مساعداتها الناشئ إذ تأسست CIDCA فقط عام 2018، ومن الصعوبة أن تصل إلى أي مستوى قريب من برنامج المساعدات الأمريكية عندما كان في ذروته بالسنوات الأخيرة، وذلك لأسباب عديدة ليس أقلها نتيجة المعارضة الداخلية. ويخلص المقال إلى أن قيادة الصين على الأرجح تتفق مع تصرفات الإدارة الأمريكية بشأن المساعدات الخارجية، وإن كان ذلك لأسبابها الخاصة.
إذا انتهينا من حكومات الدول الكبرى، فماذا عن مؤسسات المجتمع المدني ودعمها للتنمية؟ كانوا من أصحاب النفوذ بالتسعينيات وصاروا منبوذين اليوم كما كتبت سوبارنا شودري المتخصصة بدراسة المنظمات غير الحكومية ومؤلفة كتاب عن مؤسسات المجتمع المدني سيصدر قريباً، خلال شرحها عما تراه عن أسباب انقلاب الحكومات على هذه المؤسسات التي كانت قوية بالسابق خلال العشرين عامًا الماضية.
تؤكد شودري أن تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سيؤدي إلى تآكل قدرة مؤسسات المجتمع المدني وعرقلة عقود من أعمالها الهادفة لزيادة فرص الحصول على الرعاية الصحية والغذاء والتعليم وتحسين الحوكمة، لكن بينما شكّلت إجراءات الحكومة الأمريكية التحدي الأكبر والأكثر مفاجأةً لهذه المؤسسات، فإن الواقع هو أن عصر ازدهار نفوذها هذه المؤسسات قد ولّى منذ زمن، فقد جفت مصادر دخلها، وليس فقط بسبب الولايات المتحدة. فقد بدأت فرنسا وألمانيا وهولندا والسويد وبريطانيا بالفعل في تقليص مساعداتها قبل تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه للمرة الثانية. في عام 2020، أغلقت بريطانيا ما يشابه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وهي وزارة التنمية الدولية، بدمجها مع وزارة الخارجية، وانخفضت المساعدات الخارجية بنحو 6 مليارات دولار بعد الدمج، ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى 11 مليار دولار بحلول عام 2027.
بقي السؤال الأخير: هل يمكن لدول الجنوب العالمي الاعتماد على نفسها؟ هذا التحدي يناقشه مقال ديفيد إنجرمان، بروفيسور التاريخ والشؤون العالمية في جامعة ييل، والذي خلص إلى أن الدول الأكثر فقرًا أصبحت أكثر تكاملًا، لكنها لم تصبح بالضرورة أكثر اتحادًا.
الاستنتاج من إجابات كل هؤلاء الخبراء تشير بأن التنمية العالمية كما نعرفها قد انتهت، فهل تأخذ شكلاً آخرا؟