: آخر تحديث

«تبوك» تعيد كتابة التاريخ

7
9
7

صيغة الشمري

لم يكن الإعلان الأخير عن اكتشاف أقدم مستوطنة معمارية في الجزيرة العربية بالسعودية مجرد خبر أثري عابر، بل يمثِّل حدثاً علمياً فارقاً يعيد -بكل تأكيد- صياغة الكثير من المفاهيم حول بدايات الاستقرار البشري في المنطقة، حيث كشفت أعمال هيئة التراث، بالشراكة مع جامعة «كانازاوا» اليابانية وبالتعاون مع «نيوم»، عن موقع «مصيون» شمال غرب منطقة تبوك، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 11 ألف عام، أي إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، ما يمثِّل تاريخاً فريداً.

وأعتقد أن هذا الكشف الاستثنائي لا يقتصر على إظهار وحدات معمارية شيدها الإنسان القديم من أحجار الجرانيت المحلية فحسب، بل يفتح نافذة واسعة لفهم أولى المحاولات البشرية لبناء حياة مستقرة تقوم على الزراعة والصيد وتنظيم المعيشة، من واقع أن المباني السكنية، والمخازن، والممرات، ومواقد النار المكتشفة تعكس تخطيطاً وظيفياً متقدماً يشير إلى وعي اجتماعي مبكر في قلب الجزيرة العربية، فلم يعد الإنسان مجرد متنقل وراء مصادر رزقه، إنما أصبح قادراً على تهيئة بيئة مناسبة لاحتياجاته اليومية.

وتكشف الأدوات الحجرية، من رؤوس السهام والسكاكين إلى المطاحن الخاصة بدرس الحبوب، أيضاً عن مجتمع عرف الزراعة في أبسط صورها، بينما تنبئ الحلي المصنوعة من الأمازونيت والكوارترز والأصداف عن دفق جمالي ورمزي متقن، يضفي بعداً ثقافياً على هذه المستوطنة، بينما العثور على بقايا هياكل بشرية وحيوانية وقطع مزخرفة بخطوط هندسية، يؤكد لنا أن «مصيون» لم يكن مجرد مكان (للعيش، بل فضاءً اجتماعياً وثقافياً حمل قيماً ومعاني تتجاوز الوظائف المعيشية المباشرة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير).

وفي تقديري، فإن الأهمية الكبرى للاكتشاف تكمن في إعادة رسم ملامح «الهلال الخصيب»، حيث لم يعد محصوراً في بلاد الرافدين وبلاد الشام وجنوب الأناضول، إنما اتسع ليشمل شمال غرب الجزيرة العربية، في تأكيد على أن المملكة موطناً أصيلاً للتحولات الكبرى في التاريخ الإنساني بأسره، وهو ما يضع السعودية في قلب النقاش العلمي العالمي حول نشأة الاستقرار البشري منذ أمد بعيد.

وما يزيد هذا الاكتشاف قيمة أنه يأتي في إطار رؤية المملكة 2030 التي يمثّل التراث جزءاً أساسياً من هويتها التنموية والثقافية، بدليل أن السعودية باتت لا تكتفي بحماية مواقعها الأثرية، بل تقدمها للعالم كمنابر للمعرفة الإنسانية المشتركة.

وأرى أن «مصيون» ليس مجرد أطلال قديمة، فهو شهادة تاريخية تؤكد أن الجزيرة العربية كانت مسرحاً مبكراً للحضور والإبداع البشري، مما جعل الحاضر السعودي يستمد قوته من جذور ضاربة في عمق الزمن، وبالتالي يصبح الماضي ليس عبئاً نحمله، بل ركيزة نستلهم منها الثقة في أن أرضنا كانت ولا تزال مركز إشعاع حضاري للإنسانية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد