سليمان جودة
أهم ما في الدورة الثمانين لمنظمة الأمم المتحدة، وهي تلملم أوراق اجتماعاتها السنوية هذه الأيام، أنها صارت دورة لفلسطين دون منافس.. فليس في العالم من حولنا ركن إلا وفيه أزمة، وليس فيه أرض إلا وفيها حرب، أو تعمل على إطفاء نار حرب بالقرب منها، ومع ذلك، فإن فلسطين كان لها نصيب الأسد في الدورة الثمانين، ولا أدل على ذلك من أن عدد الدول التي أعلنت قبل بدء الاجتماعات عزمها الاعتراف بفلسطين، قد وصل لـ11 دولة، موزعة على قارات العالم. ولقد تساءل كثيرون عن حق: وماذا يفيد هذا الاعتراف؟ هل سيقيم الدولة الفلسطينية على الأرض أمامنا، أم ماذا على وجه التحديد؟
الإجابة عن هذا السؤال أو هذه التساؤلات تبدأ من تأمل أحجام الغالبية من الدول الإحدى عشرة التي أعلنت التوجه منذ وقت مبكر إلى الاعتراف بفلسطين، فهي دول ذات وزن في المجتمع الدولي، واعترافها بالذات له معنى ورمزية كبيرة في القضية، منها فرنسا على سبيل المثال، إذ إنها كانت أول دولة -تقريباً- تبدأ هذا الطريق ومن بعدها تكاثرت بقية الدول وتقاطرت، وقد نال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ما ناله من هجوم إسرائيلي بسبب مبادرته في هذا الاتجاه، ولكنه لم يخضع ولم يتراجع، ولم يخفف من حماسته لقراره ولا لموقف بلاده، وكان هذا مما سوف يظل يحسب لساكن قصر الإليزيه، لأنه كان شجاعاً في موقفه، وكان متمسكاً به رغم الهجوم الإسرائيلي المتواصل عليه.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن فرنسا كانت هي الدولة التي أسهمت في برنامج إسرائيل النووي عند نشأته، فإن اعتزامها الاعتراف بفلسطين وتصميمها على ذلك، يأتي وكأنه نوع من الإقرار بالذنب من جانبها عما كانت قد أسهمت به في هذا البرنامج، أو كأنه إصلاح لأخطاء الماضي، أو كأنه نوع من الرغبة في إحداث توازن في الموقف، بحيث يوازن موقفها اليوم تجاه الفلسطينيين وحقهم في أن تكون لهم دولة فلسطينية مستقلة على أرضهم، مع موقفها القديم من دعم البرنامج إياه.
ومن بين الدول الإحدى عشرة نجد بريطانيا، وهذه بدورها دولة لها ثقلها في عالمنا المعاصر، كما أنها من خلال وعد بلفور القديم كانت سبباً في قيام إسرائيل، ولذلك فالأمر يبدو هنا معها كما يبدو مع فرنسا هناك، لأن الفرنسيين إذا كانوا قد حملوا لواء الاعتراف بفلسطين قبل أن تنعقد الاجتماعات السنوية بفترة، وإذا كانوا قد حملوا هذا اللواء على سبيل التكفير عن ذنب قديم يتمثل في دعم البرنامج النووي الإسرائيلي، فالبريطانيون يفعلون الشيء نفسه تقريباً، ويتحمسون للاعتراف مع فرنسا، وكأن الدولتين لديهما إحساس خفي بالذنب القديم ثم لديهما رغبة معلنة لا خفية في التكفير عن ذلك الذنب.
وربما يكون هذا من الأسباب التي أصابت الإسرائيليين بالجنون، ولكن ما أصابهم وما رأيناه منهم تجاه باريس ولندن، لم يؤثر في قرار العاصمتين، ولم يجعلهما تتراجعان أو تفكران في التراجع، وكان هذا مما يحسب لهما بالتأكيد. ومن بين الدول الإحدى عشرة نقرأ اسم بلجيكا، وحين نطالع اسمها في القائمة، نفهم -على الفور- أن اعترافها لن يؤخذ في المحصلة الأخيرة على أنه اعتراف بلجيكا كدولة في حدودها وكفى، بل سيؤخذ على أن بلجيكا هي مقر الاتحاد الأوروبي، فكأن الاتحاد كله يشاركها الاعتراف ضمنياً، وكأن اعترافها هو اعتراف من 27 دولة هي مجمل دول الاتحاد، وربما لهذا السبب نفهم لماذا تتعرض رئيسة المفوضية الأوروبية للهجوم من جانب تل أبيب طول الوقت.
وفي قائمة الدول الإحدى عشرة سوف نلمح اسم كندا، وبكل ما تمثله كندا بسبب موقفها الرافض لما راح الرئيس ترامب يتحدث به عنها، عندما دخل مكتبه في العشرين من يناير في هذه السنة.. فمن بعد حديثه عن أنه يريدها جزءاً من بلاده، ومن بعد رفضها المطلق لما راح يعلنه، بدأت المعركة السياسية والاقتصادية بينهما، ولم يكن سيد البيت الأبيض يتخذ موقفاً ضدها من خلال رسومه الجمركية، التي راح يستهدف بها مختلف دول العالم، إلا وكانت الحكومة الكندية ترد عليه رسوماً من عندها برسوم من عنده.
إننا أمام قائمة تضم فرنسا، وبريطانيا، وبلجيكا، وكندا، ومع هذه الدول الأربع دول أخرى، ولكنها الأربع التي تمثل القاطرة القوية التي تشد قرار الاعتراف وتدفعه، ولا نتيجة لذلك كله إلا يقين الإسرائيليين، بينهم وبين أنفسهم على الأقل، بأن مع هذا الاعتراف القوي والمتوالي، ليس من حل سوى حل الدولتين، وأنه لا بد من دولة فلسطينية وإن طال القتال على أرض فلسطين! هذا وجه من وجوه قوة الاعتراف ورمزيته، فالدولة الفلسطينية لن تقوم في يوم وليلة، ولكنها ستقوم استناداً إلى خطوات وأرضية تمهد الطريق، ولا بد من أن اعتراف الدول الإحدى عشرة، وفي القلب منها الدول الأربع، هو بداية لهذه الخطوات وهذه الأرضية.