: آخر تحديث

محمّد بن عيسى... السهل الممتنع

2
2
2

خيرالله خيرالله

للمرّة الأولى ينعقد موسم أصيلة الثقافي في غياب محمّد بن عيسى الرجل الذي كان وراء فكرة هذا المنتدى الثقافي والسياسي والفني وكلّ ما له علاقة بثقافة الحياة. كان لي شرف القاء هذه الكلمة في مناسبة تكريم موسم أصيلة لمحمد بن عيسى:

لعلّ أصعب ما يواجه من يريد الكتابة عن شخص استثنائي مثل محمد بن عيسى العثور على مدخل إلى رجل يتمتع بعدد لا يحصى من المواهب.

كان محمّد بن عيسى رجالاً عدة في رجل واحد. هل يكتب المرء عن السياسي محمّد بن عيسى، أم عن رجل الثقافة، أم عن رجل الفنّ والعلم والمعرفة... أم عن صاحب الذوق المرهف الذي تعبّر عنه اناقة بيته في الرباط أو في اصيلة، المدينة التي كرّس نفسه من أجل خدمتها وخدمة أبنائها الذين لم ينس يوما أنّه واحد منهم.

عرفت محمد بن عيسى السياسي عن كثب منذ سنوات طويلة. عرفته سفيراً نشطاً في واشنطن (بين 1993 و1999) حيث عرف كيف يقيم علاقات مع كبار رجالات الإدارة الأميركية.

أهمّ ما عرفه محمد بن عيسى، بفضل ذكاء رجل العلاقات العامة الناجح، كيف يحقق اختراقات في مراكز القرار والمؤسسات الفاعلة في واشنطن. أقام علاقات استمرت حتّى بعد مغادرته العاصمة الأميركية في العام 1999.

كان سفيراً مميزاً ترك بصماته في واشنطن. لم يكن ذلك امراً سهلاً. يعود نجاحه إلى أنّه عرف أميركا في العمق. عرف كيف تعمل واشنطن وكيف العمل في واشنطن وما شروط النجاح في هذا المكان الصعب الذي هو بالفعل عاصمة العالم.

أمضى ست سنوات في واشنطن. ساهم في تطوير العلاقات الأميركيّة - المغربية بتوجيهات من الملك الحسن الثاني الذي عينه وزيراً للخارجية، قبل وفاته. بقي في موقعه الوزاري حتى 2007، وذلك في عهد الملك محمّد السادس الذي لم يبخل يوماً برعايته لموسم أصيلة الذي يؤكد استمراره أنّ محمد بن عيسى لايزال حاضراً أكثر من أي وقت.

في كلّ ما فعله محمّد بن عيسى كان هاجسه خدمة المغرب. ردّد أمامي غير مرّة أن موسم أصيلة الذي بدأ في العام 1978 ما كان ليستمر لولا الفضاء المغربي. في الواقع، لم يكن ممكناً لهذا الموسم استضافة ندوات سياسية تتطرق إلى مواضيع سياسية في غاية الحساسية، تشمل بين ما تشمل تأثيرات الإسلام السياسي والتطرف الديني، لولا الفضاء المغربي وتلك الحرّية المتوافرة في بلد متصالح مع نفسه.

أكثر من ذلك، لم يكن ممكنا المزج بين السياسة والثقافة والموسيقى والرسم والنحت، كما يحصل سنوياً في أصيلة، لولا الفضاء المغربي الذي يسمح بتبادل الأفكار والخوض في نقاشات سياسية من دون أن يكون هناك أي سقف من أي نوع لهذه النقاشات.

عرف محمد بن عيسى كيف يحول موسم أصيلة إلى ظاهرة لا مثيل لها في العالم. لا يعود ذلك إلى الفضاء المغربي المتميز فحسب، بل إلى أن النشاط الذي كان يبذله يومياً كان في خدمة هدف سامٍ هو النجاح المغربي أيضا. كان كلّ ما يهمه نجاح أصيلة من منطلق أنّ نجاح موسمها نجاح للمغرب الذي استطاع في عهد الملك محمّد السادس تحقيق خطوات كبيرة إلى أمام في كلّ المجالات، بما في ذلك في مجال القضية المغربيّة الكبرى، وهي قضية وحدة التراب المغربي وتكريس عودة الأقاليم الصحراوية إلى الوطن الأمّ.

مؤلم ألّا يكون محمد بن عيسى بيننا في هذه الأيام القريبة من ذكرى مرور 50 عاماً على انطلاق «المسيرة الخضراء»، المسيرة السلمية التي قام بها الشعب المغربي في نوفمبر 1975 من أجل استعادة أقاليمه الصحراوية مباشرة بعد انسحاب الاستعمار الإسباني منها.

مؤلم ألّا يكون محمد بن عيسي شاهداً على ما حققه المغرب في مجال فرض قضيته الوطنية على العالم بعد جهد دؤوب دام نصف قرن قاده الراحل الحسن الثاني ولايزال يقوده محمّد السادس.

في كلّ عمل مارسه وفي كلّ مهمّة أوكلت إليه، كان محمد بن عيسى كتلة نشاط. كان السهل الممتنع. شاهدته يعمل في بيروت في أثناء انعقاد القمة العربيّة في بيروت عام 2002. أقرت تلك الخطة خطة السلام العربيّة. شرح لي وقتذاك، بكل بساطة لماذا لن يتحقق أي تقدم على صعيد السلام العربي - الإسرائيلي رغم أن الخطة «ممتازة» من وجهة نظره. ركّز على أن خطة السلام التي أقرتها قمّة بيروت كانت في حاجة إلى وفد يطرحها مباشرة وليس بالواسطة على إسرائيل.

في غياب مثل هذا الوفد، ستستمر إسرائيل في التهرّب من السلام ما دام لا يوجد من يأخذ ويعطي مع ارييل شارون رئيس الوزراء فيها وقتذاك. بعد 23 عاماً على قمة بيروت، تبيّن لي كم كان على حقّ في تقييمه المبكر لنتائج القمّة.

التقيت محمد بن عيسى في الرباط وأصيلة ومراكش وطنجة. التقيته خارج المغرب أيضاً. في واشنطن عندما كان سفيراً وفي عواصم ومدن عربيّة عدة آخرها القاهرة. لازمه دائماً ذلك التواضع الذي لا يمتلكه غير الكبار الواثقين من نفسهم والذين يتمتعون في الوقت ذاته بكبرياء وانفة، كبرياء وانفة المغربي الذي يعرف تماماً أهمّية بلده ومؤسساته الراسخة، في مقدّمها مؤسسة العرش، وتاريخها القديم.

خسارة محمّد بن عيسى لا تعوض. ما لا يعوض بشكل خاص هو ذلك الفكر الطليعي الذي جعل موسم أصيلة بداية جسر متين بين المغرب والقارة الأفريقية. أدرك محمد بن عيسى باكراً أهمّية أفريقيا. أتى زعماء وشخصيات أفريقية مهمّة إلى أصيلة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. كان الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور بين من شاركوا في موسم أصيلة. خصصت في 2006 ندوة خاصة للاحتفال بالرجل الذي توفّي عام 2001 والذي استقال طوعاً من الرئاسة بعدما أمّن للسنغال الحصول على استقلاله.

ما نفتقده ليس فقط الفكر الطليعي لرجل العلاقات الممتدة من واشنطن إلى دول الخليج العربي مروراً بمعظم العواصم الأوروبية. ما نفتقده أيضاً هو حرارة الاستقبال وتلك الضيافة اللتين كان يوفرهما صديق وانسان وفيّ كان همّه الأول خدمة المغرب ورؤية كلّ طفل مغربي ينمو ويكبر على صوت الموسيقى والفن في بلد التسامح والاعتدال والانفتاح على كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

هذا ما حلم به محمد بن عيسى. تحقق جزء من هذا الحلم في أصيلة التي حولها في نصف قرن، برعاية ملكيّة، من قرية صيادين صغيرة على الأطلسي إلى إحدى عواصم النقاش السياسي والثقافي والفن والموسيقى والنحت والذوق الرفيع في العالم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد