ثمة ظاهرة تبدو عصية على الفهم في سوريا، وهي أن مؤشرات الفقر لا تعكس حقيقة واقعه. وإذا كانت أرقام المنظمات الدولية تجمع على تجاوز عدد الفقراء ما نسبته التسعون في المائة من إجمالي السكان، فإنَّ المؤشرات الظاهرة لا توحي بأن النسبة تتجاوز الثلاثين في المائة، أو الأربعين في المائة في الحد الأقصى، مما يعني أن نسبة الفقر في البلاد هي أقل من خمسين في المائة، وهو تقدير غير حقيقي، تختفي في خلفيته ممارسات وسياسات تجعل الفقر يخبئ مؤشراته، أو يخفف الظاهر منها. أول عوامل التخفيف من مؤشرات الفقر سياسة السترة الحاضرة والمستمرة في الحياة السورية، التي تعتبر الفقر عيباً أو ما يشبه العيب؛ فتعمل الأسر، كما يعمل الأفراد، على تخبئة الفقر بعفة النفس، وإظهار الاكتفاء في تلبية الاحتياجات الأساسية، خصوصاً في الطعام والشراب واللباس، وهي بوابات الصرف الأساسية، وهذه السياسة حاضرة في المدن والقرى على السواء، بل إنها في الأخيرة وفي بعض المناطق تبدو ظاهرة عامة لحماية المجتمع.
ثاني العوامل يستند إلى التضامن الاجتماعي، الذي ظهر في سنوات الثورة وحرب نظام الأسد على السوريين بمستويين: الأول تضامن الأفراد والعائلات بين الأصول والفروع والجوار في الاتجاهين، والثاني مستوى التضامن العام، وقد غطَّت تبرعات ومدفوعات السوريين في الخارج من أفراد وجماعات مدنية وأهلية قسماً كبيراً من احتياجات السوريين في مدن وقرى الداخل، وساعدت بعض السوريين المهجَّرين في بلدان، بينها لبنان وتركيا، وقد حملت التبرعات قرى ومدناً كاملة لسنوات طويلة، وساعدت إلى جانب التبرعات الدولية في حماية السوريين من الجوع وانهيار بنياتهم الاجتماعية بصورة شاملة، وإن كانت أضعفتها.
لقد ساهمت ممارسات وسياسات السوريين في سنوات الثورة الأولى (2011 - 2018) في التخفيف من مظاهر وآثار الفقر الذي سبَّبه الدمار والبطالة والتهجير، غير أن إطالة أمد الحرب، وتزايد وحشية نظام الأسد في نهب السوريين، ووقف المساعدات الدولية وتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، فاقمت أوضاع السوريين، وأخذ الفقر ينشب أظفاره فيهم، ومظاهره تزداد حضوراً في حياتهم، إضافة إلى تعميم الفقر أيضاً وتجاوزه نسبة التسعين في المائة.
وبعد إسقاط نظام الأسد وولادة نظام جديد في سوريا، ديسمبر (كانون الأول) 2024، كان الاتجاه إلى تأمين أوضاع السوريين ومراعاة ظروفهم المعاشية الصعبة، لا سيما لجهة مواجهة متطلبات الحياة الأساسية، وفيها تأمين الغذاء والماء، والسكن والصحة والعمل والتعليم، مما ولَّد حراكاً سورياً عامّاً في ثلاثة مستويات.
المستوى الأول قامت به الإدارة الجديدة، التي نشطت في إعادة بناء أجهزة ومؤسسات الدولة، وفق أسس جديدة، تقوم على خلاف ما كانت عليه المؤسسات السابقة، وإعادة تشغيلها، ورغم أنه كلف وقتاً وجهداً كبيرين، ونتائجه كانت أقل من المطلوب، بفعل عوامل داخلية وخارجية الأهم فيها تركة الدمار الثقيلة التي خلفها نظام الأسد في الداخل، والعقوبات الدولية المفروضة على سوريا، فقد تحققت خطوات مهمة في المستويين الداخلي والخارجي فتحت الأبواب، عبر سياسات وإجراءات تنظيمية وإدارية، تقود نحو تحسن الوضع.
المستوى الثاني مستوى من شراكة بين مؤسسات الحكومة والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، وقد ولدت في حاضنة هذا المستوى حملات تبرع في أغلب المحافظات، وفي مدن وقرى فيها، تؤدي إلى إقامة مشروعات هدفها إنهاض الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
والمستوى الثالث، وهو الأهم بحكم قاعدته الشعبية، التي خلقت نشاطات في مجموعتين: الأولى فيها مكونة من منظمات عمل مدني وأهلي، بعضها قديم نقل نشاطاته من الخارج إلى سوريا، والبعض الآخر جرى تشكيل جماعاته ومنظماته في العام الماضي بعد سقوط النظام، والمجموعة الثانية من حلقات ومجموعات ومبادرات «غير منظمة» يقف خلفها ناشطون وفاعلون في المجتمع من رجال أعمال ومثقفين وطلبة جامعات وغيرهم، وتتشارك المجموعتان في تقديم الدعم والمساندة للسكان في البيئات المحلية، ويمتد طيف المساعدات والدعم في مجالات كثيرة، منها تقديم الدعم الإغاثي على نحو ما جرى في السنوات الماضية، لكن فيه أشياء جديدة ومحدثة، مثل التعليم والتدريب ودعم مشاريع العمل والتشغيل وخلق المبادرات في قطاعات الإنتاج والخدمات.
إنَّ التقييم الأولي لما يجري من مبادرات نحو تحسين أوضاع الفئات الضعيفة في المجتمع السوري في المستويات الثلاثة ليس كافياً ولا يلبي المطلوب، لكنه يعكس رغبة إيجابية في تصدٍّ عملي ومشترك لما يمثل حاجات ملحَّة من جهة، ويعكس إحساساً بأن تلك الأعمال تتطلب تشاركية سورية واسعة بين الدولة والمجتمع.
لقد قارب السوريون تحدي ظروفهم الصعبة بصورة تكاد تكون عفوية، ومن خلال مبادرات متعددة، وكثير منها عفوي أو تقليدي، مما يفرض ضرورة تقدم مؤسسات الدولة ومؤسسات وأصحاب الخبرة السورية لدعم تلك المبادرات وتطويرها وتثميرها إلى الحدود القصوى بحيث تكون الجموع السورية قوى في إنهاض سوريا من دمارها، وقوة تشارك بنشاط في إعادة إعمار سوريا المقبلة.

