علي عبيد الهاملي
لم يمضِ سوى شهرين ونصف الشهر تقريباً على انتهاك إيران لسيادة دولة قطر، إبان حربها القصيرة مع إسرائيل في يونيو الماضي، حتى تكررت الحادثة، لكن على يد الطرف الثاني، إسرائيل، هذه المرة، في مشهدٍ بدا وكأن الدوحة كُتِبَ عليها أن تكون ميداناً لصراع القوى الإقليمية والدولية، وأن سيادتها امتحان متجدد لإرادة الخليج ووحدته وصلابته.
الضربة الإسرائيلية التي استهدفت الفريق الفلسطيني المفاوض على أرض قطر، لم تكن مجرد حادثة عابرة في سياق المواجهة المستمرة في المنطقة، بل رسالة صاخبة أرادت تل أبيب أن تبعث بها إلى أكثر من طرف: إلى الفلسطينيين أولاً، وإلى الوسيط القطري ثانياً، وإلى الخليجيين والعرب جميعاً ثالثاً.
الفارق بين الانتهاكين، أن الأول جاء من دولة إقليمية ترى في الخليج مجالاً حيوياً لمشروعها، والثاني جاء من دولة تُعَدّ حليفًا لقوى كبرى تتحكم بمفاصل النظام الدولي. لكن التشابه بينهما أكبر من الاختلاف؛ فكلاهما مسّ السيادة القطرية، وكلاهما استهان بالعرف الدولي والقانوني الذي يُحرِّم الاعتداء على أراضي دولة ذات سيادة. هنا، يصبح السؤال مشروعاً: ما الذي يجعل قطر ساحة مفتوحة للانتهاكات؟ وهل يعني ذلك أن أمنها وحده المستهدف، أم أن الرسالة موجهة إلى كل بيت خليجي، باعتبار أن الخليج جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟
دول الخليج في الحادثتين لم تتعامل مع الموضوع كمسألة تخص قطر وحدها. في مواجهة الانتهاك الإيراني، تجلت وحدة الصف الخليجي بزيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، إلى الدوحة في اليوم التالي مباشرة، لتأكيد أن أمن قطر جزءٌ لا يتجزأ من أمن الإمارات والخليج جميعاً. وفي مواجهة الانتهاك الإسرائيلي، جاء الموقف سريعاً أيضاً، عبر زياراتٍ وإداناتٍ رسمية صريحة، وتنسيق خليجي مشترك، عبّر عن أن التهديد إذا مسّ دولةً فهو تهديد لكل المنظومة الخليجية.
هذا الموقف لم يكن شكلياً، ولا دبلوماسياً فقط، فهو مبنيٌّ على قاعدة قوية رسّخها التاريخ تقول إن أمن الخليج لا يُصان إلا بتماسك دوله، وإن أيّ تراخٍٍ في هذا التماسك يعني فتح الباب واسعاً أمام التدخلات والانتهاكات. أما الموقف العربي فجاء متوافقاً مع الموقف الخليجي، متسقاً مع ما تقتضيه المرحلة من تكاتف أمام المخاطر التي تحيق بالأمة العربية. وهكذا جاء الموقف الدولي أيضاً، لكنه لم ينعكس بشكل قوي على قرار مجلس الأمن الدولي الذي جاء خجولاً، لم يذكر اسم الدولة المعتدية، كي يمكن تمريره من دون فيتو أمريكي.
وفي خطوة بالغة الدلالة والأهمية، استضافت الدوحة يومي 14 و15 سبتمبر قمة عربية إسلامية طارئة، بحثت تداعيات الهجوم الإسرائيلي على سيادة قطر. هذه القمة لا تقتصر أهميتها على توقيتها الذي يأتي بعد أيام من الانتهاك، بل تكمن في رمزيتها أيضاً، إذ تجتمع الأمة العربية والإسلامية في العاصمة التي استُهدفت، لتبعث إلى العالم رسالة تقول إن قطر ليست وحدها، وإن المساس بسيادتها هو مساس بجدار الأمة بأكملها.
انعقاد القمة في الدوحة يضيف زخماً جديداً للموقف الخليجي، ويمنحه بعداً عربياً وإسلامياً يرفع من سقف الرد السياسي والدبلوماسي، ويوجه إشارة قوية بأن الاعتداء على أي دولة خليجية أو عربية لن يمرّ بلا موقفٍ جماعي رادع. كما أن مشاركة دول إسلامية وازنة أضفت على المداولات طابعاً دولياً، ربط بين أمن الخليج وأمن العالم الإسلامي في معادلة متكاملة.
ما جرى في قطر خلال الشهور القليلة الماضية يختصر حقيقة المشهد الإقليمي: الخليج مستهدف، والسيادة الوطنية مهددة من أكثر من طرف، والرهان الوحيد الممكن هو على الوحدة والقدرة الذاتية. لا إيران قادرة على فرض هيمنتها إذا واجهتها جبهة خليجية متماسكة، ولا إسرائيل قادرة على تكرار استباحة السيادة إذا وجدت رداً جماعياً حازماً. أما العرب فقوتهم في وحدتهم.
إن قطر لم تُستهدف لذاتها، بل لأنها جزء من المنظومة الخليجية، ولأنها تلعب دور الوسيط في واحدة من أعقد قضايا المنطقة. وإذا كان الانتهاكان الإيراني والإسرائيلي قد التقيا على أرض الدوحة، فإن الرد الخليجي يجب أن يلتقي على كلمة واحدة: إن سيادة أي دولة خليجية خط أحمر، وإن أمن الخليج كلٌّ لا يتجزأ.