ما إن أكمل رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو شهره التاسع في منصبه، حتى استقال بعد أن صوَّتت الجمعية الوطنية (البرلمان) بأغلبية ساحقة لصالح حجب الثقة عنه. ووضع هذا التصويت الرئيس إيمانويل ماكرون، أمام مأزق صعب، إذ أجبره على تعيين رئيس وزراء آخر، سيباستيان ليكورنو، وزير الدفاع المنتهية ولايته، ليكون الخامس في غضون عامين فقط، من دون أي يقين بأنه سيكون الخامس المحظوظ.
من جهته، يبدو ماكرون في عجلة من أمره، إذ يريد السفر إلى نيويورك لتسوية حرب أوكرانيا، وضمان الاعتراف بدولة فلسطينية، وحل المشكلة النووية الإيرانية، وتقديم خطة شاملة لإعادة إعمار لبنان وسوريا.
في هذه الأثناء، عاد الفرنسيون إلى أسلوبهم التقليدي في التعامل مع الأزمات السياسية، بالنزول إلى الشوارع، وتخريب خطوط السكة الحديدية، ونهب المتاجر الفاخرة، وبالطبع، تنظيم إضرابات مفاجئة في جميع أنحاء البلاد.
يتردد الحديث عن إضراب عام، مع وجود نفحة من أجواء ثورية تُلوّث هواء الخريف. ونظراً لأن المفردات السياسية الفرنسية تعج بمصطلحات عسكرية من عينة «قتال» و«مقاومة» و«حصار»، وبالطبع «ثورة»، فإن السرد المحيط بالأحداث الجارية قد يبدو أكثر مهابة مما ينبغي.
من جهته، علَّق السياسي المخضرم رولان كايرول على الوضع الراهن بقوله: «النظام الفرنسي أصابه بالشلل». ويشير معلقون آخرون إلى أن فرنسا بحاجة إلى «ثورة» مؤسسية. ودعا ائتلاف اليسار المتطرف بزعامة جان لوك ميلينشون، زعيم «الجبهة الشعبية الجديدة»، في أثناء اجتماع، بينما رفع علم فلسطين، إلى «إلغاء الجمهورية الخامسة، وتأسيس أخرى سادسة»، وعمد إلى تصوير نفسه باعتباره المنقذ. وفي الإطار ذاته، أكد دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى هنا أن «فرنسا بحاجة إلى منقذ»، معرباً عن قلقه من الضرر الذي قد تُلحقه الأزمة الفرنسية بالاتحاد الأوروبي ككل.
وقال المؤرخ المرموق جان غاريغ إن إلغاء الملكية خلَّف وراءه فراغاً هائلاً على صعيد الحياة الوطنية الفرنسية، لدرجة أنه لم تفلح إمبراطوريتان، ونظامان ملكيان، وخمس جمهوريات في سدّ هذا الفراغ. فمن ناحيته، يتفق الرئيس ماكرون مع هذا الرأي، وقد سعى لسنوات لسد هذا الفراغ بإصراره على أن المسؤولية تقع عليه دائماً، ليعطي بذلك منتقديه ذريعةً لوصفه بـ«جوبيتر».
والسؤال الآن: هل تعيش فرنسا اليوم حالةً شعبوية وتبحث عن منقذ؟ للوهلة الأولى، يُمكن بسهولة تحديد الشروط الأساسية لصعود الشعبوية.
الأول: عندما تتحدى القاعدة نخبة تنظر إليها، عن حق أو باطل، بوصفها غير كفؤة وفاسدة ومنفصلة عن «الشعب الحقيقي»، أياً كان معنى ذلك. وبصفتي متابعاً مخضرماً للسياسة الفرنسية، يمكنني الادعاء أن أياً من هذه الاتهامات لا يصمد. ومع ذلك، فإنه على صعيد السياسة، غالباً ما يكون التصور أقوى من الواقع.
الثاني: شعور شريحة كبيرة من المجتمع بالإقصاء. وينطبق ذلك على حركة «السترات الصفراء»، التي دفعت فرنسا إلى حافة الثورة قبل بضع سنوات. مرة أخرى، كان أولئك الذين ادعوا «الإقصاء»، في الواقع، برجوازيين إقليميين ميسوري الحال اختاروا عن طيب خاطر إقصاء أنفسهم.
الثالث: الضعف الهيكلي للأحزاب السياسية، التي يُعد وجودها ضرورياً إذا أُريد للديمقراطية أن تعمل بشكل صحيح. وقد يكون هذا الشرط موجوداً في فرنسا اليوم، مع انكماش الأحزاب الحاكمة التقليدية إلى مجموعات ضيقة.
الشرط التالي، وهو حاضرٌ كذلك، تشتت الدوائر الانتخابية.
اللافت أن جزءاً من الناخبين الشيوعيين وغيرهم من اليساريين الراديكاليين، انتقل إلى معسكر اليمين الراديكالي، بقيادة حزب «التجمع الوطني»، بزعامة مارين لوبان. واتجهت شريحةٌ من اليسار نحو اليمين الاستبدادي التقليدي، الذي يُقدّس فلاديمير بوتين، ويتبنى مواقف معادية للسامية، متذرعاً بـ«القضية» الفلسطينية.
في سياقٍ شعبوي، يسعى المتنافسون على السلطة إلى تضخيم المشكلات، ونشر الخوف من المستقبل، وإثارة الاستياء من «الآخر»، لا سيما المهاجرين القدامى والجدد، والحسد تجاه «الأثرياء».
إن أكبر مخاوف الشعبويين من اليمين واليسار، والذين نجحوا إلى حد ما حتى الآن، يكمن في الخوف من إصلاحات قد تهدد «المزايا الاجتماعية المكتسبة»، مثل التقاعد المبكر والإجازات الطويلة.
كانت الخطة التي قضت على حكومة بايرو، خفض الإجازات السنوية يومين فقط لتغطية جزء من عجز الموازنة العامة. وكان يختبئ في الخلفية قرار خفض سن التقاعد بسنتين للعمال الذين يعملون لحسابهم الخاص، بينما يشن الشعبويون حملةً للمطالبة بالتقاعد عند سن الستين.
اللافت أنه عادةً ما يقوم الناس بالثورات لإحداث التغيير. ومع ذلك، فإن الفرنسيين، بنهجهم الشعبوي، يقرعون طبول الثورة لمنع التغيير. والمفارقة في كل هذا أن الديمقراطية الفرنسية، رغم عيوبها، لطالما انتصرت على الشعبوية، لكنها في النهاية فشلت في ترجمة انتصارها إلى مؤسسات راسخة. وقد يقترف بعض الديمقراطيين الفرنسيين اليوم الخطأ نفسه، الذي ارتكبوه عندما احتشدوا حول من كانوا يطمحون للإنقاذ. ويقترح آخرون من أنصار الديمقراطية حلولاً متنوعة، بما في ذلك انتخابات التمثيل النسبي والعودة إلى حكومات هشة في ظل الجمهورية الرابعة.
كان النظام، المصمَّم خصيصاً للجنرال ديغول، ناجحاً، ولطالما رأى الفرنسيون الرئيس منقذاً، أولاً من هزيمة الحرب العالمية الثانية، ثم من تحدي الحروب الاستعمارية المكلِّفة في الهند الصينية والجزائر. كما نجحت الجمهورية الخامسة، بفضل نجاح فرنسوا ميتران وجاك شيراك في تشكيل تحالفات انتخابية قوية. وفي عهد الرئيسين نيكولا ساركوزي وفرنسوا أولاند، تفككت هذه التحالفات، مما دفع الرئيس إلى مستنقع المعارك السياسية الرخيصة.
وقد يستغرق التحول إلى نظام سياسي قائم على التمثيل النسبي وبناء التحالفات والتسويات البرلمانية سنوات للتكيف معه، وقد يفقد مصداقيته مع العقبات الأولية الحتمية على الطريق. أما البديل، فنظام رئاسي كامل مبنيٌّ جزئياً على النموذج الأميركي.
وبعد كل ذلك، أمرٌ واحدٌ مؤكد: لن تُحلَّ مشكلات فرنسا بأعمال الشغب والإضرابات وما يُعرف بالفرنسية بـ«الجاكيري».