محمد الرميحي
منذ أن تركت مقاعد الدراسة فيها قبل سنوات طويلة.. أعود إلى انجلترا كل عام في مرحلة ما قبل الخريف لأقضي أسابيع عدة، ثلاثة أسباب تجعلني أختار هذا الوقت، الأول هو اعتدال المناخ، وثانياً بدء النشاط الثقافي، أما الثالث فهو بداية النشاط السياسي، بعد عودة البرلمان البريطاني من الإجازة.
العودة هذه المرة كانت صاخبة، فقد صاحبها حديث عن عدم التزام نائبة رئيس الوزراء بدفع ما يجب عليها أن تدفعه من ضرائب لشرائها منزلاً ثانياً، وبعد أيام من النقاش الساخن على وسائل الإعلام، قدمت نائبة الرئيس استقالتها، وقام رئيس الوزراء بإعادة تركيب الوزارة.
المشكلة الأكبر اليوم في بريطانيا هي ما يمكن تسميته (اللاجئون غير الشرعيين) أو لاجئو المراكب الصغيرة الذين يتدفقون بأعداد كبيرة، في عام 2024 بلغ عدد الأشخاص الذين وصلوا بالقوارب الصغيرة 37.000 شخص، حسب الأرقام الحكومية، وهذا الرقم يزيد بنسبة 25% من قدم إليها عام 2023.
القضية حاول حلها حزب المحافظين قبل أن يترك الحكم قبل عام باتفاق مع حكومة رواندا في ما يسمى (اتفاقية الشراكة من أجل الهجرة والتنمية الاقتصادية) على أساس أن ترسل بريطانيا إلى رواندا المهاجرين، إلا أن الفكرة فشلت، ومع وصول حزب العمال في صيف 2024 قرروا اتباع سياسة جديدة فوقعوا اتفاقاً مع فرنسا يسمي 1 + 1 إلا أن هذا الاتفاق أيضاً لم يسفر عن شيء. أصبحت القضية ملتهبة وتثير المظاهرات يومياً في بعض المدن المختلفة واشتباكات مع الشرطة والسلطات المحلية.
بعد الحرب العالمية الثانية، عانت بريطانيا نقصاً حاداً في الأيدي العاملة، وسمح وقتها للمواطنين من الكومنولث، الهند باكستان بنغلاديش، الكاريبي، أفريقيا، بالهجرة إلى بريطانيا للعمل، وجاءت في الخمسينيات والستينيات أعداد كبيرة من الهند وباكستان، وفي سبعينيات القرن الماضي تبين أن هذه الهجرة هي عبء على الاقتصاد، فبدأت بريطانيا تنظم هذه الهجرة، وفي التسعينيات توسعت الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة من بلدان أوروبا الشرقية، مما دفع بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد.
مدينة لندن التي أصبحت مدينة ملونة، لا تستطيع أن ترى إلا في النادر شخصاً أبيض، يغلب على لندن وعدد من المدن في بريطانيا اليوم اللون البني أو الداكن، ومع الوضع الاقتصادي الصعب، بدأت شريحة من البريطانيين تضع اللوم على المهاجرين، أنهم السبب الرئيسي لتدهور الوضع الاقتصادي، من هنا جاء شخص مختلف عليه ومثير للجدل اسمه نايجل فراج الذي غامر بعدد من الأحزاب الصغيرة، حتى وجد ضالته أخيراً في إنشاء حزب الإصلاح، وتبنى كل أفكار الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، حيث رفع شعار (لنجعل بريطانيا عظيمة مرة أخرى)!، حتى في تعبيراته الكلامية والسلوكية تشبه بترامب، استغلالاً للرأي العام الساخط.
لأول مرة تظهر نتائج الاستطلاعات أن الحزبين الكبيرين، حزب العمال، وحزب المحافظين، انخفضت شعبيتهما لصالح حزب الإصلاح، الذي يقول إنه سيتخلص من كل القادمين الجدد إلى بريطانيا خلال أسبوعين فقط من استلامه الحكم!
لذلك في التغيير الحكومي الأخير، جاءت سيدة شرقية كوزيرة للداخلية، اسمها شابنا محمود، ولدت في بريطانيا وتعلمت في جامعة أوكسفورد، عضوة في البرلمان عن برمنغهام، وتعرف بجديتها الصارمة كيد أمنية في الملفات الحساسة وخاصة الهجرة.
بدأ رؤساء الحكومات، سواء المحافظين، أو العمال، استخدام وزراء داخلية من أبناء المهاجرين القدامى، على أساس أن هؤلاء المهاجرين الأقدم، هم الأكثر عداءً للمهاجرين الجدد، وتلك ظاهرة إنسانية لافتة. من الصعب تصور أن يصل حزب مشابه لأفكار ترامب في بريطانيا إلى الحكم لأن المجتمع بطبعه مضاد للقطعية سواء كانت اليمين أو اليسار، إلا أن الملاحظ أن هناك أزمة قادمة قد تقود إلى شكل جديد من العلاقات السياسية الداخلية مع ظاهرة «ترامب البريطاني».محمد الرميحي