يوما عن يوم، وحدث وراء آخر، وكارثة بعد مصيبة، ومليون دليل يتبعه ما يمثاله عددا من الضربات، يتبين لنا، أكثر وأكثر، أن مجتمعاتنا، شئنا أم ابينا، مجتمعات محكومة أو بالأحرى مدارة من قبل «رجل دين خفي»، لا نراه، لكن نتلمس أثره وتأثيره وسطوته في كل مناحي الحياة، مع كل اختلافاتنا العقائدية والفكرية والثقافية. يتحكم «رجل الدين الخفي» في طعامنا، ولباسنا، وعاداتنا وتقاليدنا، ودروس وخطب مساجدنا، ووسائل إعلامنا وما يدرس وما يمنع تدريسه في جامعاتنا، وما يمكننا قراءته، وما لا يسمح به، وما نكتبه من مقالات أو قصص أو أبحاث، وما يُمنع منها، وما يسمح به، وحتى أسماءنا يقررها، وأحيانا قبل ان نولد، رجل الدين الخفي، وهكذا مع عشرات الأمور الأخرى!
بحثت كثيرا ولم أجد ما يجبر أي شعب على أن يعيش في دولة «دينية» قاسية في جمودها، يديرها رجل الدين الخفي، ناكرا على الجميع التمتع بحياتهم، إلا ضمن ما يقوم هو بتحديده، لذا تخلصت غالبية دول العالم «المتحضر» من سطوته، وبقينا وحدنا نقاسي من تلك السطوة، مجبرين على الإيمان بالظاهر والمعلوم من الغيبيات، سواء تماشت وتوافقت مع العقل والمنطق أو تضاربت معه، طالما أن الرجل الخفي يقول ذلك، وتسري غالبية تعليماته وأوامره ونواهيه حتى على من لا يتّبعون ملته.
لكن الوضع على المقلب الآخر مختلف تماما، فلا وجود لـ«رجل الدين الخفي» بل هو رمز، ورهن الإشارة متى ما ظهرت الحاجة له، فلا يطرق باب بيتك ولا يتدخل في خصوصيات أحد ولا يفرض على أحد ما يراه من أسلوب حياة، وطريقة عيش، بل ينتظره في مكان عبادته ويقدم له النصيحة والسكينة وكل ما قد يكون بحاجة له لكي يشعره بالأمان، دون تدخل ولا تهديد ولا وعيد بعقاب، دنيوي أو أخروي.
الدولة المدنية ليست حلما، فهي موجودة وتتمثل في العديد من الأنظمة، وهي في جميع الأحوال، أفضل من غيرها في كل شيء، وأكثرها أمانا، وأكثر عدالة مع كل المتدينين، سواء كان إسلاما أو غير ذلك، فالدولة المدنية لا تمنع أحدا من إقامة شعائره، ولا أداء صلواته ولا أين يقيم مسجده او معبده، ولا تتدخل في طريقة تعليمه، أو تربية أبناءه، ولا تفرض عليه طعاما أو لباسا أو سلوكا معينا، فقوانينها واحدة يخضع لها الجميع، تمنع وقوف أي مكون، مهما كانت نسبته عالية، من الوقوف موقفًا معاديا من أي مكون أو أقلية أخرى، أو تتدخل في ممارساته اليومية، او تطلب تغيير قيمه وعاداته وأخلاقياته، إلا إذا تعارضت مع القانون والنظام العام، وتعطي الجميع حرية الدعوة والبلاغ والتبليغ مع احترام عقائد الآخرين وعدم ازدراء شعائرهم، دون أن تجحد أمرًا أو تجور على أحد، بمنعه من إقامة شعائره. وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف