: آخر تحديث

الزُّبيديّ.. تواري المهندس وراء الكاتب

5
4
4

ما كنتُ أحسبُ، لو عاد بنا الزَّمن إلى قبل (2003)، أنَّ الكاتب والمهندس هيثم الزُّبيديّ (1964-2025)، سيصبح صديقاً حميماً، أتفقده ويتفقدني، على مدار عشرين عاماً، قبل ذلك التّاريخ كنتُ أتوجس مِنه الرّيبة، وهو يرتاب مني، وإذا بالحال يتبدل مِن شروط العداوة إلى شروط الصَّداقة، التي حددها أبو حيَّان التّوحيديّ (ت: 414 هج) في كتابه عن الصَّداقة.

أحسبُ أنَّ أبا حيَّان، في كتابه هذا، أول مَن أشار إلى العولمة التي نعيشها اليوم، جعل الصّداقة دليلاً عليها وطريقاً إليها، وهو يسأل أستاذه أبا سليمان محمَّد بن طاهر السّجستانيّ (ت: 380 هج)، عن سرِّ صداقته مع أبي بكر أحمد بن سيَّار القاضي الصَّيْمريّ (ت: 368 هج)، قائلاً: «ومما يزيد طرافته أنَّك مِن سجستان، وهو مِن الصّّيْمرة (موضع بالبصرة)؟ فقال: الأمكنة في الفلك أشدُ تضامناً مِن الخاتم في أصبعك، وليس لها هذا البُعد الذي تجده بالمسافة الأرضيَّة، مِن بلدٍ إلى بلدٍ بفراسخ تُقطع، وجبال تُعلى، وبحار تُخرق» (التَّوحيديّ، الصّداقة والصّديق). ليس مِن جبال ووديان وبحور ما بيني وبين الزُّبيدي، تؤخر صداقتنا إلى بعد (2003)، فنحن أولاد وطن واحد، وما بيننا كان أقل مِن قطر الخاتم، لكنها السّياسة العامة، وهكذا هي السّياسة بيننا نحن العراقيين، تُقصي إلى التَّوحش والوحشة، وتُدني إلى الرِّضى والإذابة.

لم نقترب مِن بعضنا بعضاً حتَّى سقطت الآمال، وصار المآل المشترك في الاغتراب. كم جيل مِن العراقيين تنافروا داخل بلادهم، وتقاربوا خارجها، بعد أنْ وحدهم الإعياء والإقصاء، وهذا ما كان يتداول في اللقاءات، بين الملكيين والجمهوريين، بعد أنّ صار العدو مشتركاً موحداً، فتحول حديث العداوة، بين الحزانى لقتل الملك والأسرة الملكيَّة ببغداد، والمبتهجين بثورة 14 تموز (1958)، إلى فكاهات بينهما، في مؤتمر أقامته «الملكيّة الدستوريّة» (ربيع 1995)، ولما كنا نلح على صديقنا البعثي: «أنتم جئتوا بقطار أميركيّ» (فبراير 1963)، قال ما أضحكنا جميعاً: «وهل تريدون أن نأتي مشياً؟»، والآن سارت قطارات، والرّكاب يتقاتلون!

تراني أسهبتُ في المستهل، عن صداقتي مع هيثم الزُّبيديّ، الذي وجدته أمامي في الاغتراب، يحاول العمل خلال دراسته، بعيداً عن الهندسة المختص بها، وقبل الكتابة التي احترفها، وهو ابن مسؤول بارز، وظهر لي أنّ المعاناة واحدة، وليس له شخصيَّاً قيْد أَنُملة في اغترابي ومعاناتي، لكن قبل (2003)، والعواطف على أشدها، كنتُ أصدق مَن يقول لي: الشّمس تشرق من الغرب، ولا أصدق معاناة ابن مسؤول، حتّى تكاشفنا ليظهر هيثم يعيش معي على الكوكب نفسه، وليس قادماً مِن كوكب آخر، مثلما كنتُ أحسبه، فأحلامنا جميعاً كما قال صناجة الشّعر: «عِشنا لها حِقباً جُلاء ندللها/وتجتوينا ونعليها فتدنينا» (الجواهريّ، يا أمَّ عوفٍ 1954). كانت دراسة الزّبيدي الهندسة النَّوويَّة، حصل على الدّكتوراه متفوقاً فيها، لكنّ الصَّحافة والكتابة غلبت الهندسة، فأنشأ صحيفة إلكترونيَّة مبكراً «ميدل إيست أونلاين»، ثم أعاد إصدار جريدة «العرب» (2012)، ومنهما أخذ يكتب مطولاته مِن المقالات، تناول فيها القضايا الحساسة، قام بدورٍ مؤثر في مواجهة «الإسلام السّياسيّ، الذي رفع عقِيرته باسم «الرّبيع العربيّ».

استمر يكتب وهو يغالب المرض القاتل، الذي نشب أظفاره في بدنه، وعمله الصَّحافيّ ومقالاته لم يعطيا تصوراً أنه في معركة مَع عدو شرس متربص، لذا كان إعلان رحيله مفاجأةَ حتَّى لأصدقاء له، ونادراً ترى مَن يكاشفه الطَّبيب باليأس، ويرد عليه بهذه الصَّلابة: «لا يهمني، لم يبق مِن جيلي إلا القليل، مَن قُتل، واغتيل، ومضى حتف أنفه».

كم مِن طبيبٍ ومهندسٍ ومحامٍ توارى وراء الكتابة والفن والأدب، ليس لقلة عِلم ودراية، فالدُّكتوراه في الهندسة النَّووية، ومِن«إمبريال كوولج»، لا تعني قلة عِلم، وقبلها تخرج في الجامعة التّكنولوجيَّة ببغداد، لكنَّ هاجس الكتابة داخله كان طاغياً. لذا، توارى هيثم الزُّبيديّ المهندس وراء الكاتب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد