أمينة خيري
بينما تشتعل المنطقة بالمواجهات، يظهر جنوح من نوع آخر يظنه البعض مرجعية لحسم أمر الصراع. إنه جنوح «السوشيال ميديا»، أو بالأحرى جنوح جانب من المحتوى، ومعه ملايين ممن تعد ما تظهره الخوارزميات لها المصدر المؤكد والرأي السديد.
لسنا في حاجة لإعادة سرد مميزات وإمكانات «السوشيال ميديا»، بدءاً من تمكين الجماهير الغفيرة من المعلومات، مروراً بأدوات البحث والتنقيب، وانتهاء بمرحلة لم نصلها بعد. في الوقت نفسه، السلبيات والأضرار شر لا بد منه في كل ابتكار، والعبرة بالوعي.
في هذه الحلقة من حلقات الصراع في الشرق الأوسط، تتفجر منصات التواصل الاجتماعي، لا في منطقتنا العربية فقط، ولكن في شتى أرجاء الأرض، بكم مذهل من المحتوى القادر على إيقاع كثيرين في قبضة التضليل والتزييف. الصور ومقاطع الفيديو المزيفة أو المفبركة أو المجتزأة تظل سلاحاً عاتياً في الصراعات، ووسيلة يلجأ إليها أفراد وجماعات، وربما مؤسسات للتأثير في الرأي العام وتوجيهه. ويضاف إليها في الصراع الأخير تلال من التحليل الاستراتيجي، والتفسير التكتيكي، والشرح العسكري وكذلك النووي. والغالبية غارقة في تصفح المحتوى.
وقد ظهر جلياً في المواجهة بين إيران وإسرائيل أن كثيرين، بمن فيهم مؤسسات ودول، تنبهت إلى أهمية تأثير المحتوى العنكبوتي في المتلقين، سواء في الدول الضالعة في الصراعات، أو تلك المهتمة والمتابعة لما يجري.
حتى سنوات قليلة مضت، كانت صناعة وتوعية وتوجيه الرأي العام تعتمد على وسائل الإعلام التقليدية، والخطاب السياسي، والعوامل الاقتصادية، والقيم، والعادات الثقافية والاجتماعية. اليوم، وبشكل متصاعد ومتسارع، تفرض المنصات الرقمية نفسها صانعاً وموجهاً رئيساً للرأي العام في العديد، إن لم يكن أغلب، دول العالم، متفوقة على أغلب العوامل الأخرى التقليدية.
كيف غذت «السوشيال ميديا» المواجهة بين إيران وإسرائيل؟ الصراع بين إيران وإسرائيل يطلق موجة من التضليل الإعلامي المصنوع بالذكاء الاصطناعي على منصات التواصل الاجتماعي، شبكات إيرانية على «السوشيال ميديا» تنتحل شخصية إسرائيليين، إسرائيليون يغردون بالفارسية ويدعون أنهم إيرانيون، مقاطع فيديو خارج السياق تقدم معلومات مضللة عن الصراع على مدار الساعة، هذه وغيرها من آلاف العناوين تطل على الجميع على مدار الصراع. إنها عناوين كاشفة للاعب الجديد على الحلبة.
وبقدر ما تزيد أعداد المنتبهين إلى الخيط الرفيع الفاصل بين الحقيقة وشبه الحقيقة، والمعلومة والتضليل على «السوشيال ميديا»، بقدر ما تؤثر الصراعات ومشاعر القلق والخوف لدى المستخدمين في قدراتهم التحققية، واستعدادهم للبحث والتقصي عما يطرح أمامهم من محتوى قبل تكوين رأي بصدده.
نسميه أدرينالين الصراعات، قلق الحروب، توتر النزاعات، لن نختلف. المتفق عليه هو أن هامش التحقق يتقلص، ومساحة التعقل والالتفات إلى أن الجميع يتم جره إلى حلبة صراع رأي عام موجهة بمساعدة خوارزميات وتقنيات رقمية يستغلها البعض، تقل وتنكمش.
والنتيجة هي أن البعض من مستخدمي «السوشيال ميديا» ومتابعيها تتشكل آراؤهم وتبنى رؤاهم بحسب محتوى يفرض نفسه عليهم عبر شاشاتهم. قد يكون رأياً يرد في «بودكاست» لشخص يتابعونه، أو تحليلاً لمؤثر سياسي يقول عداد المتابعين إنه عالم ببواطن الأمور، أو تعليقاً لأحدهم على صور وفيديوهات يعاد مشاركته وتداوله على أوسع نطاق، ومصداقيته الوحيدة تكمن في أن أصدقاء ينصحون بمشاهدته.
دائرة التأثير في الرأي العام لا تنتهي عند هذا الحد، لكنها تستمر عبر تصاعد نداء هنا، أو توجيه لوم هناك، أو التقدم بمطالب هنا وهناك بناء على ما أوردته منصات «السوشيال ميديا». هذه المطالبات تتراوح في درجاتها وكذلك في خطورتها بين مطالبة بجر رجل دولة إضافية في الصراع، أو لوم أخرى على موقفها، ويصل الأمر أحياناً إلى مشاركة خطة عسكرية أو رؤية لوجستية لإدارة الأزمة، وضعها طبيب يهوى السياسة، أو سنها كهربائي يتابع الأخبار، أو أعاد تشاركها عشرات يتخذون من «السوشيال ميديا» ملجأ وسكناً على مدار اليوم.
كامل الاحترام للجميع، ولكن «السوشيال ميديا» في فتح منصة إضافية لكشف الحقائق يختلف عن فتح منصة إضافية لتقرير من ينضم للصراع، ومن يرسم الخطط، ومن يحدد مصائر البلاد والعباد.