: آخر تحديث

ما هكذا يا سعد تورد الإبل!

5
5
5

محمد ناصر العطوان

في سهل مترامٍ توجد قرية كان قد شع فيها النور يوماً، وحيث تلتقي الرياح بالرمال، ترعى إبل «سعد» العظيمة بتاريخها والمسكينة بواقعها... إبلٌ هي زينة الصحراء، رمزٌ للقوة والوجهة، تتجه إليها الأنظار في السفر والاستقرار. لكن سعد... رغم حرصه الظاهر، يوردها موارد الهلكة، ويُسيرها سيراً يُثير الهمّ في صدور الناظرين. فما هكذا تُورد الإبل يا سعد!

كان بين يدي سعد «دليلٌ مكتوب»، ورثه عن الأسلاف الحكماء، مكتوبٌ فيه خبرة القرون في رعاية الإبل ومسالكها الآمنة، والمسارات البعيدة عن قطاع الطرق، وفيه بيانٌ لدوائها من أمراضها، وطريق سقيها وقت العطش، وعلامات الإرهاق فيها.

لكن سعد، أهمل هذا الدليل، وضيعهُ بين متاعه، أو قرأه ذات يوم قراءة عابرة دون تعمّق... فصار يُعالج السقيم بعلاج السليم، ويُحمّل الراحلة فوق طاقتها، ويبحث عن الماء في مواضع الجفاف. ولو تمسّك بالدليل المكتوب، وتدبّر حكمته، لاجتنب كثيراً من الزلل، ولوجد فيه البوصلة التي ترشده في ظلمات التيه.

والإبل، يا سعد، لها وجهةٌ معلومة، وجهة تُطمئن القلب وتُعين على الثبات... هي لا تستقيم إلا بها، ولا تُنتج خيرها إلا بالتوجه إليها... فماذا فعل سعد؟! أدار ظهره للاتجاه الصحيح، ووجه إبله تارة نحو «الغرب» البعيد، حيث صخبٌ لا ينتهي، ووعودٌ زائفة تذيب الهوية، وتارة نحو «الشرق» المتربص، حيث رياحٌ باردة قد لا تُلائم طبيعة إبله، وقد تُجيرها عليه... أما الوجهة الأصلية، وجهة الأمان والهوية، فتاه عنها سعد في زحام الإغراءات والرهانات الخاسرة... الاتجاه يا سعد، ليس مجرد بوصلة، بل هو روح الرحلة! الإبل تضعف وتضل إذا حادت عن وجهتها التي فُطرت عليها... فكيف توردها وأنت مشتمل؟!

وحين تواجه الإبل خطراً، كالذئاب الضارية أو الأفاعي الخبيثة، يلجأ الراعي لرمي الحجارة لردعها. لكن سعداً يُلقي حجارته الثمينة في غير موضعها! يرميها نحو ظلالٍ لا تؤذي، أو نحو أشجار مثمرة في صحراء قاحلة، غافلاً عن الذئاب الحقيقية التي تنهش في إبله من «الغرب» المتغطرس أو «الشرق» الماكر. بل إنه أحياناً يلقيها نحو من يحاول نصحه! الحكمة يا سعد، تكمن في تمييز العدو الحقيقي، وحفظ الحجر للعدو الفتّاك، لا تبديده في مهاترات أو صراعات جانبية تُضعفك وتُقوّي خصومك الألدّاء.

يا سعد... أعد النظر في «الدليل المكتوب» ففيه الرُوح، وليس شيءٌ أطيب من الروح، ما انتزعت من شيء إلا أنتن... ارفعه من غبار الإهمال، اقرأه بتدبّر وعقل ودعاء، واجعله نوراً لخطاك. فيه خلاصك وبركة إبلك... وصحّح وجهة إبلك واستقم على الوجهة الأصيلة التي تجمع شملها وتُعيد لها عزمها وقوتها. ولا تبع هويتك بوعود زائفة من شرقٍ أو غرب... واحفظ حجارتك للعدو الحقيقي واثبت، ووجّه سهامك ونبالك نحو من يتربّص بك وبإبلك، لا نحو ظلال أو أشجار مثمرة... القوة في الحكمة والتركيز والثبات.

فيا سعد، الإبل أمانة في عنقك، ورعايتها تحتاج إلى حكمة الدليل، وثبات على الوجهة، وحصافة في مواجهة الأخطار. لا توردها موارد التهلكة، ولا تُضلّلها عن طريق رشدها... فانهض، واستعن بالدليل، وخذه بقوة... واستقم على الوجهة، واعرف أين تُلقي حجارتك. ففي ذلك -وليس في التخبّط والتيه- يكمن عزّك وعزّ إبلك...

وكل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد