الصواريخ على منشآت إيران النووية شرارة لشرق أوسط مختلف على كل المستويات، وأهمها الصراع؛ حيث انطلقت معها نيران صراع أعمق وأكثر خطورة حول مستقبل الشرق الأوسط، بين مشروعَيْن متباينَيْن جذرياً: مشروع انفعالي مهووس بالأنا تحرّكه الذاتية المفرطة التي يجسّدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الباحث عن إرث شخصي في لحظة سياسية مضطربة، ومشروع عقلاني طويل الأمد تتزعمه السعودية ودول الاعتدال العربي، ويقوم على إعادة بناء المنطقة على أسس الاستقرار والتنمية والواقعية السياسية. فما حدث من تصعيد عسكري إسرائيلي ضد منشآت إيران النووية، ثم دخول الولايات المتحدة على خط النار بضربات مباشرة، لا يعكس فقط منطق الردع أو حسابات الأمن القومي، بل يكشف عمق الأزمة في طريقة إدارة النزاعات في المنطقة بمقاربة مبنية على هوس الصورة والانتصار الإعلامي، وليس بمنطق الدولة والمصالح الاستراتيجية.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي رفع شعار الانسحاب من الحروب ووعود السلام، وجد نفسه اليوم أمام مغامرة عسكرية جديدة في قلب الشرق الأوسط، مدفوعاً بمزيج من الضغط الداخلي، ورغبة في إثبات الحزم، واستجابة لصقور حزبه والإعلام اليميني، في حين يعيش نتنياهو أزمة داخلية غير مسبوقة، في ظل ملاحقات قضائية وانقسام سياسي حاد، ما جعله يبحث في الخارج عن «عدو موحّد» يعيد به ترتيب أوراقه المتناثرة. كلا الرجلين يراهن على المواجهة العسكرية بوصفها منصة لبناء إرث سياسي، في لحظة تختلط فيها الحسابات الشخصية بالمخاوف الأمنية. هذا النمط من القيادة الذي يركن إلى الضربات الاستباقية وردود الفعل الانفعالية، من دون تصور واضح لما بعد الحرب، أعاد إلى الأذهان تجارب الشرق الأوسط الكارثية خلال العقدَيْن الماضيَيْن، من غزو العراق إلى الفوضى الليبية، وكلها أثبتت أن إسقاط الأنظمة بالقوة لا يعني نهاية الصراع، بل بداية أشكال أكثر تعقيداً منه.
في المقابل، منذ قرابة العقد تبلور بهدوء مشروع رؤيوي للاستقرار والسلام تقوده السعودية، لا يقوم على الاستعراض، بل على إعادة تعريف الاستقرار بوصفه ركيزة لبناء الدولة والمجتمع. تنطلق الرياض من إدراك عميق بأن إيران، رغم تهورها، تبقى دولة محورية، وأن انهيارها على نحو فوضوي قد يولّد فراغاً أخطر من بقائها، خصوصاً إذا دخلت البلاد في سيناريوهات من التفكك والفوضى على غرار ما حدث في العراق بعد 2003. ومن هنا، فإن رؤية السعودية تنطلق من احتواء السلوك الإيراني عبر تحالفات ذكية، وخلق توازن إقليمي، وليس عبر التدمير الشامل أو المغامرات العسكرية. السعودية، في مشروعها هذا، لا تكتفي بلعب دور «ضابط إيقاع العقلانية السياسية»، بل تطرح نفسها بصفتها قوة استقرار تقود منطق الدولة ضد منطق الثورة، وتحل محل الفاعلين الدوليين الذين تراجع دورهم أو اهتزت ثقتهم لدى شعوب المنطقة.
الشرق الأوسط إذن لا يقف اليوم على مفترق الحرب والسلام فحسب، بل على مفترق بين نمطَيْن من القيادة وصنع القرار؛ الأول شعبوي، وانفعالي، ونرجسي، تحكمه قرارات لحظية وصراعات إعلامية، والثاني مؤسساتي، وعقلاني، يؤمن بأن الحلول في المنطقة لا تأتي عبر الضربات الجوية، بل عبر تفكيك البنى المتوترة، وفتح قنوات الحوار، والتدرج في الإصلاحات الداخلية. المشروع الأول يرى أن التاريخ يُصنع عبر المواجهة، والثاني يعرف أن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالصبر والاتساق والتراكم.
إسرائيل التي تقود التصعيد ضد إيران، تبدو اليوم وكأنها تحاول وراثة دور أميركا القديم بوصفها ضامناً للأمن عبر القوة، لكنها تسقط في الفخ ذاته الذي سقطت فيه واشنطن سابقاً، حين اعتقدت أن تدمير البنى النووية أو اغتيال القادة كفيل بإسقاط النظام من الداخل، متناسية أن هذه الأنظمة، وإن كانت ضعيفة وفق فرضياتها، إلا أنها تحسّن ثقافة البقاء والتضحوية، وغالباً ما يعيد القصف العسكري إنتاج شرعيتها في عيون شعوبها. فإيران اليوم، رغم ما تلقته من ضربات، لم تسقط بل من المرشح أن تعود إلى امتلاك سلاح نووي سري وتدخل في حالة عزلة، وربما إعادة استثمار نحو التصعيد على الرغم من وضعية شبكاتها ووكلائها وشعبيتها المتراجعة.
يبقى التهديد الحقيقي ليس في الرد الإيراني، بل في الانزلاق غير المقصود إلى حرب مفتوحة، يمكن أن تعم كل المنطقة. وإذا لم تضبط وتيرة التصعيد، فقد نجد أنفسنا أمام ثلاثة سيناريوهات: الأول، انفجار شامل يؤدي إلى استنزاف اقتصادي وتهديد لحركة النفط والملاحة الدولية، ويفتح المجال أمام الفوضى وعودة الجماعات المتطرفة. والثاني، تجميد مشروط للمواجهة وفق معادلة ردع غير معلن، تستفيد منه إيران لترميم منظومتها وتحضير ردها في لحظة لاحقة. أما الأخير فهو المسار الذي تراهن عليه السعودية ودول الاعتدال، وهو خلق «صفقة كبرى» إقليمية عبر الوساطة، تعيد إيران إلى الطاولة، وتفتح الباب لعملية شاملة تعيد تعريف الأمن في الخليج وشروط التعايش.
إن ما يميّز المشروع السعودي ليس فقط العقلانية، بل إيمانه بإدارة الاختلاف لا استئصاله، وبأن تفكيك التهديد الإيراني لا يتم عبر القصف، بل عبر خلق بيئة سياسية واقتصادية تجعله أقل قدرة على التأثير. وهذا ما يفسّر تحول الرياض إلى مركز إقليمي لحل النزاعات، وبناء مبادرات اقتصادية وأمنية، وتقديم بدائل تنموية، بدلاً من مجرد التنديد أو الاصطفاف.
ختاماً، إذا كانت الضربات الإسرائيلية والأميركية تُقدم باعتبارها «انتصاراً استباقياً»، فإن التجربة أثبتت أن هذا النوع من الانتصارات غالباً ما يكون وهمياً أو مؤقتاً على المدى الطويل. فحتى لو دُمّرت المنشآت، هذا لا يعني نهاية المعرفة والأهم هو تدمير الدافع وإعادة التأهيل للدخول في مشروع الاستقرار والتنمية، ومن هنا فإن الرهان الحقيقي ليس في الهجمات والصواريخ المتبادلة وما تخلفه من ضحايا، بل في استعادة منطق الدولة، وهو الوحيد القادر على بناء استقرار لا يُفرض بالقوة، بل يُنتج من الداخل.
دور السعودية ودول الاعتدال مرشح للصعود لضبط إيقاع المنطقة ودفعها صوب العقلانية لا باعتبارها وسيطاً عابراً، بل بوصفها دولة قيادية وضامنة لمشروع شرق أوسط مختلف، يرى في الاستقرار أولوية وضرورة وجودية وبوصلة وحيدة نحو مستقبل مزدهر تُقاس فيه الدول بما تُنجزه، لا بما تُدمره.