: آخر تحديث

الطريق... في السبع المثاني!

5
5
5

محمد ناصر العطوان

كان تراب العاصفة الصيفية الأخيرة تحت قدميه يرتجف، لم يكن يعرف إلى أين يسير، لكنه كان يعرف أن عليه السير، وما بين السير والمسير ذلك السؤال الذي ملأ صدره، فضاق الصدر وكأنّ الهواء نفسه قد تخلى عنه، ذلك السؤال كان دليله الوحيد.

توقف... ثم رفع وجهه نحو الغيب الذي يتسع فوقه، نحو ذاك اللامرئي الذي يملأ كل مرئي.

لم يقل شيئاً. لم تكن الكلمات قد تشكلت بعد... فقط همسة من أعماق الصحراء التي داخله، ومثل خريطة مرسومة في الهمس الذي يسبق الكلمات، بدأت المعالم تظهر.

اسم. لا مجرد لفظ، بل مفتاح. باب ينفتح على نور يغسل العينين من ظلمة الحيرة، اسم هو نبع الرحمة التي لا تنضب، والشمس التي لا تغيب، والمطر الذي لا يبخل على الأرض العطشى، حتى تلك التي لا تعرف شكراً.

اسم هو الحبل الذي يُلقى لمن هو على وشك الغرق في بحر نفسه.

اسم الله والذي لو لم يُذكر لكان كل شيء أبتر.

ثم جاءت الحقيقة، وكل شيء يعود... الزرع، والغيم، والضحكة الطفولية، والدموع المالحة، والغبار الذي كوّن الجبال، والأنفاس التي شكلت الحياة. كل شيء يعود إلى مصدره الأول. إلى يومٍ تُوزن فيه النوايا وليس الصروح، وتُرى فيه القلوب لا الأقنعة. يوم لا ملاذ فيه إلا من الرحمة نفسها.

«الحمد لله رب العالمين... الرحمن الرحيم... مالك يوم الدين».

هنا، عند هذا المنعطف من الصحراء، وقف وحيداً أمام المرآة العظمى وسأل السؤال:

«لمن تنحني ركبتاي حقاً؟».

لمن يبذل وقته، قلبه، رغبته، خوفه؟ لمن يرفع راية الولاء في ساحة حياته الضيقة؟ الأسئلة كانت سكاكين تشق الصدر... لكن النزيف كان تطهيراً.

«إياك نعبد وإياك نستعين»... فهم أن العبودية ليست ذلاً، بل تحريراً. تحريراً من أصنام صنعها بنفسه: شهوة لا تشبع، غرور لا يهدأ، خوف لا ينتهي، وجمع لثروة لا تزيد، وطريق تفرعاته متداخله وماكرة.

فعرف أن الانحناء أمام «الواحد» هو القيام الحقيقي... والسجود في حضرة «المهيمن» هو التحرر الفعلي.

ثم جاء الدعاء، ليس كلمات تُلقى في الفراغ، بل يدان ممتدتان في ظلام دامس.

أرني الطريق... «اهدنا الصراط المستقيم».

ليس طريقاً مرصوفاً بالذهب، ولا ملهىً مضيئاً بزيف الأنوار.

بل الدرب المستقيم... الممشى الواضح الذي سلكه من قبلُ أولئك الذين رأوا النور فاتبعوه، حتى عندما كان الثمن باهظاً... الذين اختاروا «القيوم» وتركوا القيام لغيره. الذين عرفوا أن الرحمة لا تنفصل عن العدل، وأن الحرية الحقيقية هي في الخضوع للحقيقة.

الطريق المستقيم...

ليس واسعاً كالطرق التي تسير فيها الجموع بلا وعي، حيث تُصبح الأوهام حقائق، وتُباع الأرواح بثمن بخس.

ليس طريقاً معبداً بالأكاذيب المريحة، ولا مرتفعاً يُشرف على وديان الغرور.

درب تُرى فيه علامات الرحمة في أصغر زهرة برية، وتُسمع فيه همسة العدل في هبوب الريح... درب القلب الواعي الذي لا يضل، حتى عندما تحجب السُحب الشمس.

وفي نهاية كل خطوة على هذا الطريق، يعود المسافر إلى البداية.

إلى الاسم.

إلى الرحمة.

إلى الاعتراف.

إلى يديّ ممتدتين في الظلام.

لأن الطريق ليس نقطة وصول، بل هو السير نفسه.

السير مع النور.

السير نحو النور.

في كل نفس.

في كل خطوة.

إلى أن يعود كل شيء... وكل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد