: آخر تحديث

لماذا الحرب؟

4
2
3

عبدالرحمن الحبيب

هل نحن كجنس بشري مُصممون على فكرة الحرب والعنف المنظم والاقتتال ضد بعضنا البعض؟ هل استمرار الحرب أمرٌ لا مفر منه داخل النفس البشرية، أم أنه خارجي من عوامل مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية، أو ضرورة أمنية؟

يبدو أنه عبر التاريخ البشري لم تنجح أي حضارة في إبعاد نفسها تمامًا عن هذا الواقع المرير، فيما حاول الكثيرون معالجة هذه الأسئلة، تظل الإجابات عصية على الإقناع، حتى بالنسبة لأفذاذ المؤرخين، ومنها كتاب صدر قبل أشهر بعنوان «لماذا الحرب؟» لأستاذ التاريخ في جامعة إكستر المؤرخ ريتشارد أوفري الذي طرح تلك الأسئلة باحثاً عما يقرب من 100 عام من الدراسات العلمية والتاريخية لفهم أسباب استمرارية الحروب؛ فعلى ماذا خلُص؟ للأسف، خلص إلى القول: «إذا كان للحرب تاريخ بشري طويل جدًا، فإن لها أيضًا مستقبلًا».

بدأ الكتاب بالإشارة إلى مراسلات أينشتاين- فرويد عام 1932 حول أسباب الحرب، حينما دُعي أينشتاين قبلها بعام لاختيار موضوع ومراسل من قِبل المعهد الدولي للتعاون الفكري التابع لعصبة الأمم، فاختار أسباب الحرب كموضوع وسيغموند فرويد ليتناولها، طلب أينشتاين من فرويد التعاون في عمل قصير يبحث في إمكانية وجود «وسيلة لإنقاذ البشرية من خطر الحرب» الذي نُشر ككتيب بعنوان «لماذا الحرب؟»، ونقل بحزن استنتاج فرويد أن الحرب يحركها دافع غريزي تجعل أي خلاص مستحيلًا، فالدافع النفسي للتدمير متأصل في المملكة الحيوانية بما في ذلك البشر.

خاب أمل أينشتاين ولم تعجبه إجابة فرويد بأن العنف طبيعة أصيلة في البشر، لتأتي الحرب العالمية الثانية بعد سبع سنوات كدليل كافٍ على هذه النتيجة المحزنة؛ حينها صار أشهر فيزيائي في العالم وأشهر عالم نفس في العالم، مجرد لاجئين يهوديين آخرين من بين كثيرين أُجبروا على ترك كتبهم وأرشيفاتهم الشخصية، مع الفرق بالطبع، بأن لهما امتياز نادر يتمثل في وجود ملجأ يستقبلهم، على عكس معظم زملائهم.

لكن أوفري يرى أن ردهما الضيق غفل تفسيرات أخرى عديدة: ماذا عن الحرب بسبب التنافس على الموارد؟ الحاجة إلى الأمن؟ العواطف الأيديولوجية أو الدينية؟ ماذا عن القيادة وشهوة السلطة وحب السيطرة؟ ليستكشف أن ثمة نطاقا واسعا عبر التاريخ البشري للإجابة على السؤال الذي يطرحه عنوان الكتاب، معيداً بناء صراعات قديمة بين الصيادين وجامعي الثمار من أفريقيا إلى الأمريكيتين باستخدام أدلة بنائية ومناخية من العصر الحجري الحديث، ومستنداً إلى التاريخ الروماني لتقييم نهم تلك الإمبراطورية للموارد؛ وليوضح الدافع وراء السلطة من خلال أمثلة: الإسكندر الأكبر ونابليون وهتلر، إلى أن يُظهر من خلال الحرب الحالية في أوكرانيا كيف تتداخل الدوافع المختلفة للحرب وتتعزز.

إذن، حسب أوفري، الحرب ليست مجرد نتيجة لسبب واحد، بل هي نتيجة تراكم عوامل متشابكة، رغم أنه يبدو أن أحداثًا محددة قد تُشعل فتيل حرب معينة، إلا أن فهم العوامل الكامنة الأعمق أمر بالغ الأهمية.

ينقسم الكتاب إلى قسمين؛ الأول، يدرس الحرب باعتبارها «نتاجًا تطوريًا تكيفيًا أو ثقافيًا نتيجة للضغط البيئي» أي تُعامل بيولوجية الإنسان ونفسيته والبيئة كمواضيع فرعية؛ أما في القسم الثاني، ينظر أوفري إلى «الإدراك البشري» باعتباره المحرك الرئيسي، ويستعرض كيف تُوفر «الموارد والمعتقدات والقوة والأمن» دافعًا للحرب.

في أحد أكثر فصول الكتاب إثارة للاهتمام وجاذبية، وهو «مختارات»، يستعرض أوفري 30 ألف عام من الأدلة والأبحاث التاريخية الأنثروبولوجية التي تشير إلى أن جنسنا البشري انجذب دائمًا نحو الصراع.

هذه الدوافع الكامنة تحفز محركات الحرب عبر تكوين ونفسية الإنسان وميوله نحو التعاون والتنافس والصراع كسمة غريزية للبشر، سواء حول «الصراع من أجل البقاء» أو «القدرة على السعي وراء العنف الحربي وتعزيزه وتبريره عبر تفسير نفسي اجتماعي في نظرية الجماعة الداخلية» مما يسمح بالنظر إلى العدو على أنه شيء «مختلف» وليس بشريًا، وذلك بعدم استخدام اسمه الحقيقي، فمثلاً بالحرب العالمية الأولى، كان البريطانيون يُطلقون على الألمان لقب «هون» (رُحّل) أو الفرنسيين لقب «بوش»، وفي حرب فيتنام، كان العديد من الجنود الأمريكيين يُطلقون على خصومهم الفيتناميين لقب تحقير «غوكس»، وكان هتلر يُطلق على أعدائه السياسيين داخل ألمانيا لقب «أونترمانشن» أي «دون البشر»، مما يُؤدي إلى قطع جميع الروابط الإنسانية العاطفية معهم.

ويوضح الكتاب تداخل دوافع الصراع من خلال التطور الثقافي والبنى الاجتماعية وما تنتجه من معايير ومعتقدات ومؤسسات التي يمكن أن تعزز العنف أو تثبطه، إلى التنافس على الموارد خاصة النادرة، مثل الأرض والمياه والمعادن، مروراً بصراعات أثارتها عواطف المعتقدات الدينية أو الأيديولوجية أو السياسية، التي تُغذي التعاون أو الصراع؛ أيضاً الضغوط البيئية لها تأثير، كما أن السعي وراء السلطة والسيطرة لدى القادة والدول، والرغبة في الأمن لها دور في دفع الدول نحو الحرب.

يخلص أوفري إلى أنه لا توجد إجابة واحدة شاملة على سؤال: لماذا يتقاتل البشر؛ فالحرب ظاهرة متنوعة ذات تاريخ طويل ومعقد؛ والكتاب يأخذ القارئ في رحلة ممتعة عبر مزيج متنوع من الأبحاث التاريخية والدراسات العلمية والتحليلات الثقافية والملاحظات الموجزة التي تستكشف أسباب الحرب عبر التاريخ، إلى أن يربط هذا التحليل بالصراعات المعاصرة، مثل الحرب في أوكرانيا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد