علي بن محمد الرباعي
كانت إحدى الأمهات كلما أغضبها ابنها الشقيّ، تدعو عليه بقولها (الله يغديك فُرجة)، وهذا قبل أن تطغى الفُرجة على العالم، وفي زمن لم يكن عند المجتمعات المنتجة أوقات تتسع ليتفرّج بعضهم على بعض، ولم أسمع عبارة (نتفرج) إلا عندما دخل التلفزيون بيوتنا، وحتى مناسبات العرضة التي تقام في الزواجات، لم يكن يُطلق على متابعتها (فُرْجَة) بل يقول عُشاقها: (هيا نغدي نخيّل في العرضة)، ولا أدري نخيّل من الخيال، أو التخييل، والمصطلحات ليست عبثيّة عند من نحتها.
ولربما، كانت إحدى إشكالات المرحلة، صعوبة الحكم على حالات، بأنها واعية تنويرية، أو جامدة تقليدية، فالظاهر والباطن، متصلان منفصلان؛ وربما كان أحدهما خادعاً، أو مراوغاً، أو انتهازيّاً، وما بين الحداثة والتجديد، والتقليدية والجمود، مسافات تزداد وتنقص بحسب دواعي التقهقر للوراء، ومساعي المُضيّ إلى الأمام، وليس كُلّ مضيّ؛ مُضيّاً ولا مُضيئاً، إذ إن البعض يمضي بالشكل دون الجوهر، أو بالمبنى دون المعنى، وبالجسد فقط، لا بالروح ولا بالعقل، ولأن الحياة رحلة سيرورة عقلانية؛ فإنها لا تنتظر أحداً، وليست مسؤولة عن تعثّر المتأخرين ولا المتخلفين.
ويُدرك علماء الاجتماع، وعلماء النفس؛ أكثر من غيرهم ما للمورثات الجينية، والبيئة الاجتماعية، والظروف الاقتصادية من أدوار في بناء شخصياتنا، التي يراها بعضهم سويّة، ويراها البعض معتلّة، والسويّة والاعتلال ربما لا تكون أحكاماً موضوعية، كون من يطلقها يحتكم إلى ردّة فعله تجاه تصرّف أو سلوك، وردات الفعل غالباً ذاتية، وعاطفية، والذهاب إلى العُمق في تشخيص حالة أو ظاهرة ما، مدعاة للغرق، والإبحار دون بوصلة متاهة، والذين ادّعوا أنهم (فهموا) كُنه الصور والمراحل الضبابية تورّطوا.
أزعمُ أن الشكل لا يُنبئ عن المضمون (الجوهر) في كل الأحوال، وفي الحديث النبوي (ربّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه) وكم نعرف أناساً فنقول ليتنا لم نعرفهم، ونعرف آخرين ونقول؛ ليتنا عرفناهم من زمن متقدّم، والانطباع الأول ربما يُكبّد صاحبه ثمناً فادحاً، وكما قيل: المظاهر خدّاعة، ومجتمع الفُرجة لا يعطيك صورة حقيقية عن واقع الشخص، كالنص الحزين الذي يكتبه أديب وهو في ذروة وناسته؛ والشاعرة القرويّة انتبهت لتحسين الشكل (الهيكل) وخراب (الماكينة) وهي تقول: (يزبرقون الغمارة والبلا جُوّا).
ومن مظاهر الطفرة، والصحوة، بروز شرائح مجتمعية، لم تكن تحلم بما حققته من ظهور اقتصادي واجتماعي، فالثراء ألبسها لبوساً غير لبوسها الأصلي، والتديّن الشكّلي منحها القبول والثقة المُفرطة، وكما قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه (إذا أقبلت الدنيا على عبد كسته محاسن غيره، وإن أدبرتْ عن عبد سلبته محاسن نفسه)، والتديّن في زمن الصحوة يخلق مثالية مبنيّة على الشكل الخارجي، والهيئة المتديّنة؛ والمال، من وسائل الكسب والوصول السريع إلى كل ما يصعب الوصول إليه، بحساب المادية والشكلانيّة.
لعلي أميلُ إلى عدم نبش ماضي البشر، لتشويه أو تعكير مزاج حاضرهم، لكن الظواهر تُدْرس قبل أن تندرس معالمها، ومن ذلك اندراج الصحوي في الحداثة، وتمثّل الثري أخلاق الكادحين، علماً بأن المرئي لا يكشف الخفي، ومن غير الحكمة إحسان الظن في الوعي، بمجرد قراءة تغريدة أو مقالة أو مشاهدة موقف توحي بالتمدن، كما من الحماقة إطلاق وصف نزيه على إداري مطاطي الذمة، فكما يتستّر الظلامي بالتنوير كي لا ينكشف، يتغنّى المطاطي بالنزاهة والأنظمة والرزق الحلال، لتفادي سوء الظن به، والأمور ليست على ظاهرها دوماً.
والحداثة، تفترض الانتقال من تقليدية الأفكار والسلوك إلى التمدين والتحديث، في الشكل والجوهر، بالعلم والثقافة والأدب والفن؛ إلا أنها لا تُلغي القِيم؛ وعلى رأسها، الصدق، والأمانة؛ والعدل، والأخلاق؛ ولجهل البعض بمفهومها، انبرى للاذعان لمتطلبات السوق، ظناً أنها حداثة، والمُحزن غرق جوهر هذه الأجسام الحديثة شكلاً في التقليدية حدّ تسليمه بالخرافات والشائعات والعصبيّة والعنصرية والعبثيّة.
ولعل الطبيعي أن يكون لكل عصر تقدميته، ورجعيته، والتقدمي ليس متهوراً بالضرورة، ولا الرجعي جباناً حتماً، فالمحفّز لتمثّل ما نميل إليه، وما نؤمن به، متصل بالجوهر، الذي ربما كان ناصحاً أميناً، أو غاشّاً أو مغشوشاً، والبعض يلجأ إلى تدريب نفسه على تمثيل كل الأدوار، ولا يستعيب من التلوّن بحسب الموقع والموقف، علماً بأن المتلوّن يغدو مادة فُرجة، في حين يرفض بعضناً أن يكون معرضاً أو (بينالي) للفرجة، يعتني بديكوراته لشد انتباه الزوّار، ولو غدا مثار سخرية، ونقد لاذع، فيوصف بالفارغ، والهشّ؛ والديكوري، الشكلاني، ولا ينتبه إلى أن ما هو عليه من (أراجوزية) لا علاقة له بالحداثة؛ بل مرتبط بجذور، وتراكمات، وعوارض نقص، نظراً لما لحق به أو بأسلافه من تهميش، أو استهانة مجتمعية، أو فاقة وعَوَز فهو معنيٌّ بالتعويض ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتحوّل إلى (فُرْجة) وكأنّه ربي استجاب دعاء أمّه (الله يغديك فُرْجة).
ويبدو أن التواصل الاجتماعي والعهد الرقمي انتصر لأبطال ومشاهير، ممن يجيدون (رزّة النفس)، وسخّرتهم ليكونوا مادة عرض، أو استعراض؛ ومن اللافت أن جرأة البعض تتجاوز حدود اللياقة، لكن كثرة الشين لا تعني نُدرة الزين، فالتواصل الاجتماعي مثلما يبرز الغثاء في الأعلى، يحفظ حق ما ينفع الناس، وتسويق الضار لا يلغي النافع، وإذا كان البعض لا يتبرّم من الاحتيال على الله؛ فلن يتورّع عن الاحتيال على خلقه.
في زمن الفُرجة، يغدو المعروض (العارض نفسه) أقرب لسلعة، أو بضاعة، ومن البضائع رخيص، ومنها نفيس، وليس كل من تغنّى بالحداثة حضاريّاً في حداثته؛ وكم رأينا وسمعنا وعشنا تجارب، مع من أوهمنا أنه مُغرم بالحداثة، وردد مصطلحاتها، وحفظ مناهجها، ودرّس أدبياتها، إلا أن الإخفاق يلازمه عند أوّل اختبار ومحكّ، فيغدو (فُرجة).
تلويحة؛
من الحكم المتوارثة (لا تُعاشِر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل، وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل).