محمد ناصر العطوان
عزيزي القارئ، تشير كلمة «أدب» في اللغة العربية إلى معان واسعة ومتنوعة، وقد تطورت الكلمة مع التاريخ وسياقاته. ففي «لسان العرب» لابن منظور (حوالي 658 هـ)، يُعرَّف الأدب بأنه الخلق والطبع، والأدب هو ما يُحسن به المرء من قول وفعل، والذي يتأدب به الأديب من الناس؛ سُمِّي أدباً لأنه يؤدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، وحتى في فترة العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين كان يطلق لفظ «الأدب» على السلوك الحسن والتربية الجيدة، وعلى كل ما هو جميل ومفيد في الكلام والعمل، كما ورد بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فبعيداً عن صحة القول فإن سياق الكلمة الاجتماعي وقتها يدل أنها تحمل هذا المعنى المتعلق بالأخلاق قولاً وعملاً.
وقد كان يُقال قديماً «رجُل بلا أَدَب» للدلالة على نقص التهذيب وحسن الأخلاق وممارسة قواعِد السلوك المُقرَّرة في المُجتمع.
وفي العصر العباسي اتسع المفهوم ليصبح ما ينبغي لذي الصنعة والفن أن يتمسَّك به، كأدَب الكاتب وأدَب القاضي. تحديداً أصبح «الأدب» علماً يشمل الفلسفة والعلوم بفعل حركة الترجمة واختلاط الثقافات؛ فظهر كتاب «الأدب الكبير» لابن المقفع (حوالي 140 هـ) الذي جمع بين الحكمة السياسية والأخلاق العملية، وظهرت كتابات الجاحظ في «البيان والتبيين» (حوالي 265 هـ) حيث مزج بين السرد الأدبي والتحليل الاجتماعي، كما ظهرت «المقامات» كفن سردي عند بديع الزمان الهمذاني (حوالي 280 هـ).
ثم تطور المفهوم بعد الدولة العثمانية، كما يظهر في «المعجم الوسيط» (العصر الحديث – حوالي 1381 هـ) حيث أصبح الأدب هو فنون النثر والشعر وما يتصل بهما، ومجموعة العادات والتقاليد الاجتماعية التي تحكم سلوك الإنسان وتحدد موقفه من القيم الخيرة والشر.
أما في العصر الحديث، اليوم فكلمة «أدب» تشير إلى الكلام البليغ المرصوص بعيداً عن الرسالة التي يحملها، والذي يصدر عن عاطفة ومخيلة، ويؤثر في النفوس أياً كانت قيمه وأياً كان شكله وقالبه.
ولكي نعرف عزيزي القارئ كيف انتقل مفهومي الأدب والأديب من الأخلاق والنفع إلى الدعوة إلى الشذوذ والشرب، فعلينا أن نعود إلى فترة النهضة العربية، حيث استمر تطور المفهوم الدلالي لكلمة «أدب» حتى وصلنا للقرن العشرين، ومع ظهور ما يمسى بالنهضة العربية، تحول الأدب إلى أداة لنقد الواقع والتراث الإسلامي وطرح الأسئلة الوجودية ومفاهيم الحرية وانفلات قيد الأعراف الاجتماعية والدعوة للتمرد، عبر الرواية والشعر الحر؛ مثل ثلاثية نجيب محفوظ (1376-1377 هـ) و«أولاد حارتنا» (حوالي 1377 هـ) التي صورت تحولات المجتمع المصري، وقصيدة «الكوليرا» لنازك الملائكة (حوالي 1390 هـ) كأولى خطوات الشعر الحر.
وفي هذه الفترة تم الانزياح نحو «الأدب العالمي» تحت تأثير الترجمة والاحتكاك بالغرب، وتغير المفهوم ليشمل الإبداع الفني (الرواية، القصة القصيرة، المسرح، الشعر الحر) مع نزعة نقدية، وظهور كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين (حوالي 1389 هـ) الذي أعاد تعريف الأدب كـ«منتج فكري وليس مجرد نصوص قديمة»، فأصبح «الأدب» مرادفاً لـ«Literature» الإنكليزية، أي الإنتاج الإبداعي المكتوب بغض النظر عن القيم التي يدعو إليها. وقد ظهرت مدرسة الفن للفن والرواية للمتعة والقراءة للهروب من الواقع وليس من أجل بنائه.
وبعد أن نهض فن الرواية والتأملات والشعر الحر، اختفى مفهوم «الأدب» بمعناه القديم وتحول إلى أدب قلة الأدب في العصر السائل، حيث يدور حول «النسوان» والإغواء وتفكيك المعتقدات الثابتة ونشر السلبية والاكتئاب والحزن والهم والغم والكتابة عن الأمراض النفسية والتعاطف مع العصاة والمجرمين والزنادقة والملحدين، وتفكيك الحدود والمعاني والأصول واستخدام تكنولوجيا النص. أصبح الأدب «سائلاً» يتشكل وفقاً لسياقات العولمة والتقنية، بعيداً عن قيمه وأخلاقه وتأدبه، مع تداخل الأجناس ودخول النثر في الشعر والمسرح في القصة والتأملات في المقال، وانزياح المعايير نحو «ما يطلبه القراء»!
ولم يعد أحد يؤدب أحداً!
خلاصة ما أريد قوله عزيزي القارئ، أنه ليس كل من كتب رواية أو قصة «أديباً»، وليس كل ما كُتب في شكل رواية أو قصة «أدباً». أخبرنا ذوو الفضل والعلم أنه لا أدب لكل من جهل معرفة قواعد التهذيب وأصول التصرف الاجتماعي والأخلاقي المقررة والمتعارف عليها، وممارستها، وتطبيقها، ومعرفة قواعِد التعاطي مع الناس، ومعاشرتهم بلياقة ولباقة، وأن يقول للناس «حُسنى»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.