حسن اليمني
ماذا لو جربنا طريقة التفكير والنظر إلى المشكلة أو القضية بالمنطق الطبيعي خارج الحق والباطل؟ بمعنى أن نتجاوز ما هو حق وما هو باطل وننظر فقط للمنطق الطبيعي للفعل ورد الفعل كحركة فيزيائية متخلصة من شد وجذب النزعة والرغبة وبحكم المنطق لا حكم العقل.
على سبيل المثال، قوة غاشمة احتلت أرضك وضيقت عليك عيشك ولا تملك آليات المقاومة القادرة على رد أو تحرير أرضك فهل تبقى أم تنزح وتهاجر؟
جاء في كتاب الله الكريم قوله في سورة النساء - الآية 97- قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ اَلْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قَالُوا أَلَمٌ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا).. الآية. والحق إن أصعب الصعاب أن تناقش العقل في قناعاته ومنطق تفكيره بالمنطق الطبيعي للتكوين الوجودي، فمن البديهي لسلامة الانسان أنه في حال نشب حريق أو ظهر زلزال يهز سكنك أن تخرج منه طلبا للسلامة، وكذلك الحال إن دخل دارك عصابة مسلحة لا تقدر عليها، دعنا نوحد الفهم ونقول إن العائلة هذه هي شعب وان الدار هذه هي وطن، وطالما أنت أو انتم غير متكافئين مع القوة المقتحمة فطلب السلامة هو الأبدى والأصح منطقيا، الرفض والصمود والمقاومة يشترط توفر القدرة أو على الأقل التكافؤ في الضرر واحتمالات النصر، وما لم تتوفر فالمنطق أن تنجو بنفسك فليست الدار ولا الأرض أثمن من سلامة وجود الانسان.
المنطق صنم أو حجر لا يتكلم ولا يسمع ولا يرى، لكنه موجود كحركة فيزيائية آلية، والعقل حي متحرك متغير يرى ويسمع ويتكلم، لكن وجوده لا يمكن أن يخرج عن منطق الأشياء إلى اللا شيء، وإلا صار عقل بلا منطق، ولا شك أن مثل هذا الرأي أو التفكير الفلسفي للعقل والمنطق قد يعد في الغالب نوعا من الهلوسة أو الجنون، أو بالأصح خروج عن المألوف والطبيعي المعاش، فلا أحد يمكن أن ينكر حق المعتدى عليه أن يصمد ويقاوم وينتصر لنفسه، هذه هي طبيعة الخلق البشري وحتى الحيواني والنباتي أيضا، لكن المخلوق أيّما كانت سعة خياله وتفكيره يبقى في حدود تكوينه الوجودي وقدرته المحدودة، دون ايمان يقيني بالله وقدرته وعظمته وحكمته يبقى الانسان خصيما لنفسه معتمدا على عقله فيخالف المنطق ويشقي نفسه بنفسه.
إن أقرب ما قد يتبادر لذهن القارئ الكريم من خلال ايحاء السطور السابقة هي قضية فلسطين وتزاحم الاعتداء على أرضهم وظهور خطط تهجيرهم من أرضهم، فأقول نعم، بين حكمة الله وبين تدبير الانسان أمد لا نهاية له، ولا يستوي المخلوق بالخالق أبدا واطلاقا، لكن هذا ربما يساعد في تفسير مواقف بعض الدول العربية حول القضية الفلسطينية من جهة وقف الدعم المسلح للمقاومة الفلسطينية واختيار مسار التسوية لمنع التهجير القسري والتضييق المعيشي للتهجير الطوعي والسعي للوصول إلى حل دولتين يمكن أن تضمن البقاء الفلسطيني على أرض فلسطين إلى حين يصبح بالإمكان تحرير الأرض بالعقل والمنطق الطبيعي، موقف قد لا يحظى بفهم من عامة وخاصة لكنه في الحقيقة اقرب للمنطق منه للعقل والناس تقيس المنطق بالعقل، وهذا «ربما» قياس خاطئ والأصح قياس العقل بالمنطق، ليظهر جليا أن الأمر بين المنطق والعقل في فهم الأشياء تستحق البحث الفكري المتخلص من العاطفة والرغبة إلى الحقيقة المنطقية الصماء والعمياء الثابتة والتي لا تتغير ولا تتأثر بفعل آلية الحركة.
النظام العربي يعتمد على إعلامه لتوضيح موقفه بذات العقلية المواجهة أو المتلقية وليس بالمنطق المتغلب على العقل، وهذا خطأ يحبس الوعي والفهم في دوامة عراك عقلي وفكري لا يستند على منطق لا تؤثر عليه قدرة الانسان مهما بلغت وبلغ به فكره وخياله، حريق التهم بيتكم دع الدفاع المدني يُهرع ليطفئ النار ويبقي لك دارك أو ما تبقى منه بما يحفظ امنك وسلامتك ولك أن تعيد البناء أو تحسين وإصلاح ما فسد، ولكن دون أن تلجأ بطوعك ورغبتك أو برغم انفك من فقدان دارك، حين تكون القوة هي الحكم والفصل فلا تبحث في العقل عن عدل أو انصاف، وانما ابحث في المنطق الطبيعي للأشياء كما هي وأنت مؤمن أن المنطق صنم لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، فقط بعقلك المتجرد من شوائب العاطفة الوجدانية يمكنك الوصول لفهم مضمون الآية الكريمة رقم 11 في سورة الرعد: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وبلا أدنى شك إن التغيير ليس البقاء في ذات الحال لكسر منطق الأشياء بل لابد من فعل ذاتي داخل النفس والعقل ليتلاءم مع الحدث الواقع بحقيقته المنطقية، وحتى لا يساء الفهم فالقصد ليس في التخلي وقبول الأمر والاستسلام له وإنما يتوجب التغير في الفهم حسب طبيعة الحدث وآلياته والتواؤم معها ليصبح مندمجا فيها وجزءا منها، وبالتالي قادر على استخدام وتطويع هذه الاليات أو الظروف لصالحه لخلق رد الفعل المساوي للفعل أو أقوى منه.
إن ما نعيشه حقيقة في القضية الفلسطينية هو عراك عقول خارج المنطق، فالوجود اليهودي في أرض فلسطين ثابت كما هو ثابت في العراق ومصر والمغرب واليمن وتقريبا كل الدول العربية والإسلامية، وهم أيضا موجودون في دول أوروبا وامريكا الشمالية والجنوبية وحتى أستراليا، أما وجود ما يسمى «إسرائيل» فلم يظهر الا عام 1948م أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتفرغ لتقسيم أقاليم الإمبراطورية العثمانية واستعمار أجزاء كثيرة منها، والخلاصة قوة عالمية ظهرت وسيطرت على معظم انحاء العالم فقررت انشاء وطن لليهود على أرض فلسطين العربية الإسلامية، وبالمنطق لا يمكن تصحيح الوضع وإعادته للسابق إلا بقوة موازية أو اقوى، وما لم تتوافر هذه القوة فإن مناطحة الصخر قد تكسر عظام الجمجمة، والحق إن زهق روح فلسطيني واحد اشد واقسى من ضياع أرض فلسطين كلها، واذا كان للعقل أن يبحث عن وسيلة لدفع الشر والاذى فلا مناص من اللجوء للمنطق والاستناد عليه طالما أن القوة غير متكافئة بفهم العقل وقدرته، حماية ما تبقى وتهدئة ولجم لفعل العدو تعطي مساحة زمنية لبناء القوة وترسيخها وتطويرها وتصعيدها لتصل يوما ما إلى موازية ومتكافئة مع قوة العدو أو حتى تجاوز قوته ليصبح ساعتئذ رد العدوان متاح بالعقل والمنطق.
كان جيش المسلمين بقيادة الأمير عمرو بن العاص قادرا على اقتحام القدس عنوة وبالقوة ومع هذا استدعى الامر بالعقل المستجيب للمنطق من استدعاء امير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقدوم إلى أرض المعركة تفعيل للمنطق على العقل للوصول إلى النتيجة المطلوبة، في صورة تبين قوة التواضع للمنطق وتغليبه على قدرة العقل - وللتوضيح بشكل اسهل - طالما أملك القوة لتحقيق النصر فما الحاجة للاستجابة لرغبة المهزوم في استدعاء امير الدولة الإسلامية؟ بالعقل لا حاجة لذلك مع توفر القدرة لكن بالمنطق الأصم الأبكم كانت الاستجابة نصرا للمنطق على العقل المشترط المطلوب تطويعه وإدخاله ضمن المجموعة بتواؤم وانسجام بدل من القوة الجبرية والقهر كما فعلت وتفعل عصابات صهيون مع الفلسطينيين والدليل استمرار الصراع منذ ولادة هذا الكيان الغاصب في أرض فلسطين وحتى اليوم، وحين نفهم الصورة بهذا الشكل ندرك أن استمرار مناهضة الاحتلال مع سعة الفجوة في القوة والقدرة يصبح لا منطقيا تماما كما هو حال فعل الاحتلال في الاستيلاء على أرض ليست له والتنكيل بشعب حي لا يتقبله وبالتالي بقي الصراع في محيط العقل المحدود مهما بلغ من السعة مخالفا للمنطق الطبيعي للأشياء.
ذات الحال تكرر مع الأمير صلاح الدين الأيوبي في فتح القدس، صلاح الدين لم يمد السلاح لأهل القدس للتحرر من الصليبيين بل إنه صالح المحتلين للقدس وتعامل معهم باتفاقيات ومعاهدات استلزمتها ضرورات التجهيز والبناء لتحقيق النصر، أي التعامل بالمنطق الطبيعي للأشياء بدل الاستجابة لأفكار العقل وشوائب الرغبة والعاطفة، توسع أولا في الشام والعراق ثم استولى على مصر ثم الحجاز ثم بدا في إمارات الصليبين المتناثرة في محيط القدس وكأنما تقليم وتحطيم لقوتهم وقواعدهم الداعمة حتى جاء يوم حطين لتنتهي حقبة الصليبيين في أرض فلسطين والمنطقة ككل، وللتأكيد على صحة موافقة المنطق بدل العقل لتحقيق النصر فان حتى ظهور ما يسمى اليوم «إسرائيل» انما تم بذات الطريقة من خلال استعمار العراق وسوريا ومصر ثم التسفير لليهود من انحاء الأرض إلى فلسطين وحين نشبت حرب 1948م «لاستقلال إسرائيل» واحتلال فلسطين لم يكن للعرب خيار الا الهزيمة وانتصار الغرب الصهيوني.
ومن نافلة القول إن المنطق الظرفي مستمر حتى اليوم للانحباس في دائرة العقل والعاطفة، وما يمكن لمسه في راهن الوقت تحول نحو المنطق ظهر في المطالبة بحل الدولتين والتواضع للمنطق بقبول الوجود الإسرائيلي في أرض فلسطين مقابل إيقاف القتل والتدمير والتوسع، منطق قد لا يتقبله العقل ولكن الحقيقة كافرة لا تؤمن بالعقل وانما على العقل أن يؤمن بالحقيقة، كما أن المنطق الطبيعي للأشياء صنم لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولكن العقل يمكن أن يهتدي ويرشد.
إن النصر لا يمكن أن يكون إلا بقواعده وتهيئة ظروفه وتحقيق أدواته، وأن البناء المتين القوي لا يمكن أن يكون في صراع ونزاع وقتل وتدمير؛ أي أن الضعف لا يمكن أن يقوى في ظل قوة أقوى منه إلا حين يهادنها طلبا للسلام والهدوء للتفرغ للبناء وتدعيم القوة، ولكل أمة من الأمم قوتان: روحية ومادية، فأما الروحية فكامنة لا تتغير قد تغفو لكنها لا تموت وقد تتوارى لكنها لا تغيب، اما القوة المادية فدول بين الأمم تتغير وتتبدل تصعد في منحنى للأعلى فما تبلغ قمته حتى تبدأ بالانحدار، هذا هو منطق الأشياء الصنم الذي لا روح فيه بما يمنعه من التغير والتبدل، وان كان لا بد من فصل القول أخيرا فلا بد من التذكير إن الحركة عدوها الثبات، والحال أن الطبيعة الصهيونية تظهر في الشر والأذى وأن أكبر عدو قاهر لها هو السلام.