اتخذ الأردن قراراً شجاعاً حاسماً بحظر جماعة «الإخوان» بشكل كامل. لقد أبدت الحكومة الأردنية كثيراً من الصبر والتسامح مع الجماعة الإخوانية، وأعطتها كثيراً من الوقت. ومنذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لم تتوقف حملات التحريض عليها والتشكيك بشرعيتها، والإساءة لرموزها، وتسخين المجتمع ودفعه للانقلاب ضد دولته؛ ولهذا لم يكن مستغرباً استهداف الجماعات المتطرفة الأردن بشكل مكثف منذ سنوات من جماعات الإسلام السياسي السنّي والشيعي بهدف تحويله إلى ساحة فوضى أخرى لتهريب السلاح، وتشكيل الخلايا السرية والإمداد اللوجيستي.
الأردن ينهي فصلاً هاماً في تاريخه. لكن السؤال: هل تموت فكرة «الإخوان» بعد حظرها؟ «الإخوان» ليس فقط تنظيماً سياسياً، لكنه أيضاً تنظيم فكري عقائدي. المدافعون عن الجماعات المتطرفة مثل «الإخوان» يقولون إن هذه الأفكار لا تموت وتستمر من جيل إلى جيل. ومعهم حق فـ«الإخوان» فكرة بدأت قبل ما يقارب الـ100 عام عندما أسسها حسن البنا في عام 1928، لكنها استمرت حتى الآن. لماذا؟ لأكثر من سبب.
أولاً، استخدمتها بعض الحكومات من أجل اكتساب شرعية، أو خشية ردة فعلها والصدام معها وتحريك الشارع ضدها، أو توجيهها ضد خصومها، أو ضد آيديولوجيات معادية، أو رغبة في إدخالها المعترك السياسي بهدف تقليم أظافرها. كل الأسباب أفضت إلى مَدِّها بحياة أطول، لكن أدت أيضاً إلى إخفاق كبير. تَرْكُ جماعة «الإخوان» وأفكارها وكوادرها ونشاطاتها تنتعش وتنتشر في مجتمع فترة طويلة يعني تسميم هذا المجتمع من الداخل وتلغيمه بالمعتقدات المتطرفة. لعبة محفوفة بالمخاطر، التساهل مع الجماعات المتطرفة، والتنازل لها أو محاولة احتوائها يشبه مصاحبة الأفاعي السامة. ونعرف تاريخياً، كيف انقلبت الجماعة في أوقات حساسة ومفصلية على رعاتها، ووجَّهت كوادرها، وتعاونت مع خصومها للقضاء عليهم.
ثانياً، فشل التنمية مدها بالحياة. استفادت جماعة «الإخوان» من تراجع الاقتصاد، أو فشل التنمية في دول عربية كثيرة، وهي تغذي مشروعيتها من غياب المشروعات الاقتصادية الناجحة، وتقدم نفسها البديل المناسب كلما زادت معدلات الفقر والفساد وسوء الإدارة والظلم وغياب العدالة.
ثالثاً، فشل الجانب الثقافي والفكري. مُنحت جماعة «الإخوان» حرية كاملة للسيطرة على المدارس والجامعات، وحولت العملية التعليمية إلى عملية زرع العقيدة «الإخوانية». فرضت الجماعة هيمنتها بالكامل على المؤسسات الدينية، ومُنحت ضوءاً أخضر للسيطرة على المجتمع من خلال النشاطات والمحاضرات والمنتديات. دعمت منصاتها الإعلامية بلا قيود. لقد سيطر خطابها على العقول عقوداً، ونشرت ثقافة الكراهية بشكل غير مسبوق. ونشتكي بعد ذلك من انتشار أفكارها واستمراريتها. لقد وصل الأمر إلى مستويات خطيرة، حتى أصبح قياديُّوها يهددون ويتوعدون للقضاء على الدولة مستندين إلى الشعبية التي راكموها خلال عقود، وجيَّشوا كثيرين من المجتمع مستخدمين كل ما تقع عليه أيديهم (العلاقة مع الغرب، أميركا، القضية الفلسطينية) لتقويض شرعية خصومهم.
كل هذه الأسباب وغيرها جعلت الفكر «الإخواني» يستمر خلال عقود، ليس لأنه فكر متماسك ويحمل مشروعية بحد ذاته، بل لأنه مُنح الفرصة ببساطة كي يستمر وينتشر. الآيديولوجيا «الإخوانية» مثل باقي الآيديولوجيات الأخرى المتطرفة مثل النازية والفاشية يمكن أن تموت إذا هُزمت أمنياً وثقافياً واقتصادياً. هزيمتها أمنياً وتركُها تنتعش فكرياً وثقافياً يعنيان عودتها من جديد. مع الفساد والفقر سيجد «الإخوان» فرصة لإنعاش خطابهم. ولو أخذنا التجربة الألمانية مثالاً لوجدنا أن المنتصرين لم يكتفوا بالقضاء على النازيين عسكرياً، لكنهم حظروهم، وقدموا بديلاً اقتصادياً وثقافياً ناجحاً جعل الفكرة النازية من مخلَّفات الماضي، وهذا ما يجب أن يحدث مع الفكرة «الإخوانية» التي استمرت أكثر مما ينبغي.