: آخر تحديث

الصورة التي وقف أمامها ماكرون

5
4
4

علي عبيد الهاملي

في خان الخليلي بحي الحسين في القاهرة، حيث يمتزج التاريخ بروائح البضائع التي تعرضها بازارات هذا السوق العريق، وحيث تتماوج الحكايات بين رفوف الكتب والتحف، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان بصحبة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أمام مشهد لم يكن جزءاً من جدول زيارته للقاهرة الأسبوع الماضي.

لم يكن الوقوف أمام قطعة أثرية فريدة، ولا أمام واجهة متجر فاخر، بل أمام صورة علّقت على مدخل مقهى شهير. الصورة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مع سيدة الغناء العربي الراحلة أم كلثوم. وقف الرئيسان أمام الصورة، التي كانت معلقة في مدخل مقهى «أم كلثوم» بذلك الحي التاريخي العريق، فكانت اللقطة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلق عليها المصريون بحب، مستذكرين الشيخ زايد، عليه رحمة الله، الذي أحب مصر وأحبه المصريون.

لم تكن تلك الصورة مجرّد تذكار، بل هي رمز حضاري في قلب القاهرة، عاصمة الشرق وقلب العروبة النابض. إنها لحظة تستحق التوقف والتأمل. فأن يلفت زعيمٌ عربيٌ نظر رئيسٍ غربي من خلال صورة، خارج البروتوكولات، وخارج دوائر السياسة التقليدية، هو بحد ذاته مؤشر على الحضور الرمزي المستمر لرجل لم يغب عن الوجدان، رغم رحيله قبل أكثر من عقدين من الزمان.

وما يزيد هذه اللحظة قيمة، أنها لم تكن في قاعة رسمية، ولا ضمن سياق دبلوماسي، بل في حي شعبي، حيث تنبع الرمزية من بساطة المكان وعمقه التاريخي. خان الخليلي لا يُقدّم ما هو سطحي، إنه يقدم الرموز التي تصمد في وجه الزمن، وزايد كان أحد هذه الرموز الخالدة.

الرسالة هنا أعمق من مجرد صورة. إنها دعوة للتأمل في كيفية صنع الرموز، والحفاظ عليها. فالشيخ زايد، عليه رحمة الله، لم يُخلّد بصورة فقط، بل خُلّد برؤية تنموية، وبسياسة حكيمة، وبإنسانية تجسدت في مواقفه مع الشعوب وانتصاره للقيم الإنسانية. حضوره في الوجدان الشعبي العربي والعالمي لم يكن مصطنعاً، بل نتيجة طبيعية لمسيرة قادها بعقل وقلب كبيرين.

صورة الشيخ زايد التي لفتت نظر ماكرون لم تكن مجرد صورة. كانت لحظة اختزلت تاريخ رجل، ورؤية أمة. ولعل السؤال الذي يُطرح اليوم: هل ندرك في العالم العربي حجم هذه الرموز التي نملكها؟ وهل نُحسن تقديمها للأجيال القادمة، وللعالم من حولنا، بالصورة التي تليق بها؟ صورة الشيخ زايد، وسط ضجيج الحي العريق وأجمل التذكارات، لم تكن ترفاً بصرياً. كانت نُقطة ارتكاز في مشهد مزدحم. هيبة الرجل طغت على المكان، كأن زايد لم يغادر، بل اكتفى بأن يُطل من إطار بسيط، ليذكّرنا جميعاً أن بعض القادة لا يذهبون إلى الفناء، بل يتحوّلون إلى ذاكرة حيّة لا تموت.

ليس غريباً أن تستوقف صورة الشيخ زايد رئيساً غربيّاً. ففي زمن المتغيرات السريعة، والأصوات العالية، يبحث الجميع عن رموز لها عمق. والشيخ زايد، عليه رحمة الله، كان من أولئك القلائل الذين جمعوا بين الحكمة والبساطة، وتركوا في كل مكان بصمة من نور. لكن ما يجعل هذه اللحظة ذات دلالة أبعد من كونها مجرّد لقطة عابرة، هو أن الصورة كانت في مصر. تحديداً في قلبها الشعبي، في خان الخليلي، حيث لا تجتمع الذكريات فقط، بل تتلاقى الأرواح.

زايد لم يكن عابراً في ذاكرة العرب، بل كان بانياً للجسور؛ جسور بين الماضي والمستقبل، بين السياسة والأخلاق، وبين الشعوب والأمم. لذلك، حين ترى صورته في خان الخليلي، فأنت لا ترى صورة رئيس دولة، بل ترى ضمير أمة. وفي لحظة كهذه، يتوقف فيها رئيس غربي أمام صورة زايد، علينا أن نُدرك قيمة ما نملك، وأن نعرف قيمة رموزنا قبل أن يلفت انتباهنا إليها الآخرون.

هذه الصورة المعلقة على جدار في مكان لا يضم إلا ما هو أصيل، كانت درساً عفوياً في الدبلوماسية الرمزية، التي لا تحتاج إلى مؤتمرات ولا إلى بيانات رسمية. يكفي أن يتأمل فيها من يريد أن يعرف الفرق بين الزعامة والحكم، وبين التاريخ والأحداث العابرة.

تُرى كم نحتاج زايد في زمن التشظي هذا؟ وكم صورة يجب أن تعود من الجدار إلى الواقع، لتُصبح نهجاً، لا ذكرى؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد