بحرب غزة ومن دونها، كانت ملفات القضية الفلسطينية مفتوحةً على مستوى العالم كله، ولا أوافق على قولٍ جرى تداوله في مرحلة الحرب على غزة، من أن القضية الفلسطينية كانت في حكم المنتهية، لولا عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي أعادتها للحياة، أي إعادة وضعها على جدول أعمال العالم.
صحيحٌ أن قضايا موازية، يمكن وصفها بالمنافسة، نشأت لتبعد الكثير من الاهتمام عنها، وهي القضايا التي أنتجها «الربيع العربي»، ومنها الحروب الداخلية التي اشتعلت في عالمنا، إلا أن الصحيح كذلك هو أن القضية الفلسطينية وإن انحسر الاهتمام عنها بفعل المستجدات الأكثر سخونة، فإنها ظلت في موقعها العميق الأكثر تأثيراً في المسارات السياسية في الشرق الأوسط، ولولا رسوخ مكانتها لما تكرّست بعد كل ما حدث كممر إجباري لا بد من عبوره بحل سياسي، إذا ما أريد بلوغ حالة من الهدوء والاستقرار يحتاجها العالم.
القضية الفلسطينية الآن قيد المعالجة في اتجاهين متداخلين؛ الأول إنهاء الحرب على غزة، والثاني فتح مسارٍ سياسي تعمل عليه بصورة مباشرة المملكة العربية السعودية وفرنسا، وعنوانه ومضمونه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا لا يمكن تفاديه في الزيارة الوشيكة للرئيس الأميركي دونالد ترمب للسعودية.
الأمير محمد بن سلمان كوّن خبرةً تفصيلية في التعامل مع الإدارات الأميركية، وما يهمنا الآن هو إدارة ترمب، الذي اختار المملكة كي تكون محطته الأولى في زياراته الخارجية، كما اختارها لتكون المكان الذي تجري فيه مفاوضات إنهاء الحرب الأوكرانية - الروسية.
الرئيس ترمب تهمه السعودية لمعرفته بثقلها السياسي والاقتصادي والمعنوي، لذا سيجد في المملكة من يمتلك القدرة المهنية في التعاطي معه بالمنطق الذي يفضله، ولأن الرجل يوصف بالمقاول الذي يدير السياسة بطرق وقواعد رجال الأعمال، فسوف يجد من يستطيع مناقشته، ذلك أن الصفقات السياسية أيضاً، أساسها الربح والخسارة، ولا شيء مجانياً، وكل شيءٍ له ثمنه.
المملكة كانت صريحةً وصادقةً مع ترمب ومع غيره، وعنوان سياستها في عهد الإدارتين واحدٌ، لم يتغير شكلاً ومضموناً، وموقفها من القضية الفلسطينية لم يعد مجرد موقفٍ تضامني مع أشقاء، مع أنه كذلك في الأصل، بقدر ما هو جزءٌ من سياسة، اتسع مجال فعلها، ليشمل مسؤولياتها مع القوى الرئيسية في العالم عن الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
وإذا ما نُظر بموضوعية وتجرد لمؤهلات المملكة في أداء دورها، بكل أبعاده ومساحاته، فأهم المؤهلات في شأن التسويات هو تماهي المملكة مع مواقف دول العالم جميعاً في اليقين بمزايا حل القضية الفلسطينية، وفق الإجماع الدولي المتبلور بحل الدولتين، بما يوفره ذلك من استقرار أكيد في منطقة هي الأكثر إنتاجاً للحروب والاضطرابات.
العالم المرهق من حربين لا يتوقف عصفهما عند حدود مكانهما، يؤيد مبادرة المملكة، وسوف يتعاون مع الخطوات المتخذة لنقل حل الدولتين من واقعه الراهن كمطلب وشعار إلى واقع جديد يبدأ بتنفيذه على الأرض.
لقد أحسنت المملكة صنعاً حين شاركت فرنسا الجهد العالمي الذي تؤديه بشأن القضية الفلسطينية، لتكتمل حلقات مبادرتها فتتحول من سعودية إسلامية عربية، إلى دولية. وما يتبقى بعد ذلك هو إقناع الرئيس ترمب بها، سواء أكان ذلك وفق حسابات السياسي أم المقاول.
موضوعياً وليس رغائبياً، فما أن تضع الحرب على غزة أوزارها فسوف يكون اليوم التالي أبعد من أولوية إعادة إعمارها، بل سيكون منطلق جهدٍ دوليٍ فعّال، يعالج القضية الفلسطينية من جذورها، وهذه هي رغبة وحاجة العالم كله. وهذا بالضبط الطريق العملي الصحيح والأساسي لإعادة إعمار السياسة في الشرق الأوسط.