عبدالرحمن الطريري
تتباين المصادر التاريخية حول من القائل «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، وإن كان المرجح أنه من السياسيين، حيث تقول الحكمة يُقدم الساسة على الحروب بينما يحذر الجنرالات منها، وبالطبع لا صوت يعلو في أبريل الجاري على صوت التعرفات الجمركية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
ومن يتابع مسيرة الرئيس ترمب قبل دخوله المكتب البيضاوي عن موضوع التعرفات تحديداً، وخلال فترتيه يعرف أنه متسق مع خطابه بحثاً عن ميزان تجاري عادل لبلاده التي يبلغ العجز بينها وبين الاتحاد الأوروبي 200 مليار لصالح أوروبا، وضعف ذلك بين واشنطن وبكين، هذا على مستوى الهدف، أما على مستوى الطريقة والإجراء فأنا لا أقول بصوابية ذلك من عدمه.
وبالتأكيد الرئيس ترمب ليس رجل حروب، وحتى ضرباته العسكرية هي ورقة من ورقات التفاوض، وربما كذلك التعرفات الجمركية، فالبداية برفع السقف في التفاوض، هو منهج يبشر به في كتابه فن عقد الصفقات.
ومع تأمل ردات الفعل على مستويات مختلفة وتحديداً من أوروبا وأستراليا وبالطبع الصين، مهم أن نعود قليلاً إلى الماضي لسبر تاريخ التعرفات الجمركية في أمريكا، الذي يعود إلى العام 1789 مع تأسيس الفيدرالية، وفي القرن التاسع عشر تم استخدامها كأداة اقتصادية وسياسية مهمة خاصة لحماية الصناعة في الولايات الشمالية.
وتبعاً للكساد الكبير في العام 1929 بدأت الحكومة تبحث عن طرق لحماية الصناعات المحلية وتعزيز الاقتصاد، فتم إقرار قانون التعرفات الجمركية المعروف «بقانون سموث هارلي» وذلك في العام 1930، وبغض النظر عن هدف حماية المنتجين الأمريكيين بزيادة التعرفة على 25% من السلع المستوردة، أدى ذلك لردود فعل عنيفة من دول عدة مما أضر بحركة التجارة الدولية وزيادة الركود، وتعظيم الأثر السلبي للكساد الكبير.
التعرفة الجمركية التي فرضها ترمب على بعض الدول، مع فرصة التفاوض مع دول أخرى لتحقيق صفقة أفضل، هي مدخل من تركيبة كيميائية معقدة يبحث من خلالها تحقيق وضع اقتصادي أفضل، يعتمد بشكل رئيس على مستهدفين وهما رفع الإنتاجية داخل أمريكا وزيادة القدرة الاستهلاكية على المدى الطويل، وتأتي هذه التعرفات أيضاً مع باقات جذب للمستثمرين الأجانب لزيادة استثماراتهم داخل الولايات المتحدة.
وبالتالي هو يطمح للخروج من مرحلة الدين العام المرتفع، التي خلفتها عدة حكومات أمريكية استنفدت عدة خيارات للتمويل، وهذا أيضاً يفسر البحث عن حلول اقتصادية للتواجد العسكري الباهظ في العالم عبر العديد من القواعد العسكرية، وإن كان هذا النقاش أعلى صوتاً في أوروبا، لكن حتى الأوروبيون يعلمون أن التراجع عن الدعم العسكري المطلق والمجاني بدر أيضاً من الإدارات الديموقراطية خلال العقدين السابقين.
التحديات في الاقتصادي الأمريكي وأكبر اقتصاديين متأثرين، وأعني الصين وأوروبا تختلفان، خصوصاً على مستوى الأوراق التي يمتلكها كل اقتصاد بما يتجاوز التعرفة المضادة، فبكين على سبيل المثال لعبت ورقتي تعطيل صفقة تيك توك وورقة التلويح بالحد من صادرات المعادن الثمينة التي تصدر أكثر من 70% من إنتاج العالم، وتعد مدخلاً أساسياً في عدد المنتجات خاصة الذكاء الاصطناعي.
لكن الصين من جانب آخر تعاني من مشكلة بنيوية، وهي ضعف الطلب في الداخل، وتسلك هي والاتحاد الأوروبي نسقاً يتسم بتحفيز الطلب الخارجي، وإن كانت المشكلة أقل تأثيراً على أوروبا، إذ لم يعارض مشروع «ماريو دراجي» رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق لتحفيز الطلب الداخلي وزيادة الاستثمارات الصناعية سابقاً سوى ألمانيا، ولكن يبدو أنها أقل تحفظاً من ذي قبل.
ومن الكلمات المؤثرة التي قالها دراجي حسب الفايننشال تايمز: «لم يسبق في الماضي أن بدا حجم بلداننا صغيراً وغير كافٍ إلى هذا الحد مقارنة بحجم التحديات»، وهو حديث يعود لما قبل حسم الانتخابات الأمريكية العام الماضي.
على مستوى أمريكا هناك أيضاً تحد أنها تستورد المنتجات، لكنها تصدر الخدمات، وهذا ما قد يضر على مستوى شركات التقنية في أوروبا، الأمر الآخر أن الرد الأوروبي يبدو مفصلاً على قياس الناخب الجمهوري عبر توجيه ضربة لولايات حزام الذرة، وسيكون تفعيلها في منتصف أبريل الجاري، أما الموجة الثانية ضرب ولايات الحزام الحديدي، وبالتالي ضرب صناعات الصلب والألمونيوم والأجهزة الإلكترونية.
الأرجح أن الفترة القادمة لن تحمل الكثير من العناد، بل إعفاءات وتوازنات ومقاربات، بعد أن تنضج الذرة وطاولة المفاوضات.