: آخر تحديث

مآل السلام في إقليم "كازامانس" السنغالي

4
5
5


عرف إقليم كازامانس، الواقع في جنوب السنغال، بكونه إحدى العقبات الكبيرة أمام استقرار هذا البلد المهم في غرب أفريقيا؛ فمنذ عام 1982، يشهد صراعاً مستمراً بين الحكومة السنغالية وحركة “القوى الديموقراطية لكازامانس”، التي تسعى إلى انفصال الإقليم، مدفوعة بعوامل تاريخية وثقافية، إضافة إلى تداعيات التهميش الاقتصادي والاختلافات العرقية والدينية، زيادة على كون  الإقليم تأثر بالاستعمار البرتغالي، بينما خضعت بقية السنغال للاستعمار الفرنسي.
 
ظل السعي لإنهاء الصراع الذي أرهق السكان وأثّر بعمق على حياتهم اليومية هدفاً لكل الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. لكن، في 24 شباط/ فبراير الجاري، توصلت الحكومة السنغالية إلى اتفاق عُدّ تاريخياً مع الحركات المسلحة لوضع أوزار الحرب مرة أخرى.
 
لم يكن هذا الاتفاق وليد اللحظة، بل جاء بعد جهود طويلة من المفاوضات التي رعتها غينيا بيساو، بقيادة رئيسها عمارو سيسوكو إمبالو، الذي أدى دوراً محورياً في جمع الطرفين حول طاولة الحوار، في محاولة لإنهاء أحد أقدم النزاعات في غرب أفريقيا.
 
على مدى العقود الأربعة الماضية، عاش سكان كازامانس حياة طبعها العنف، ما غيّر طبيعة التعايش في هذه المنطقة. فقد أدت الحرب إلى مقتل الآلاف، وتشريد عائلات بأكملها، وتعطيل عجلة التنمية الاقتصادية في إقليم يُعد من أغنى مناطق السنغال. ومع كل جولة من التصعيد، كانت أحلام الأهالي برؤية منطقتهم تنعم بالاستقرار تتلاشى. لكن هذا الاتفاق أعاد الأمل للكثيرين، الذين يتوقون إلى إنهاء القتال نهائياً وفتح صفحة جديدة من التعاون والتنمية.
 
ينص الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، ما يشكل خطوة حاسمة نحو إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمتمردين السابقين الذين التزموا كلاً بتسليم أسلحتهم والاندماج في المجتمع من خلال برامج إعادة التأهيل، وهي خطوة تتطلب عملاً دقيقاً لضمان نجاحها.
 
بدورها، وعدت الحكومة بتنفيذ مشاريع تنموية واسعة تشمل تحسين البنية التحتية، مثل بناء الطرق والجسور، وتعزيز الخدمات الصحية والتعليمية، ما يوفر فرصاً جديدة لسكان المنطقة الذين طالما شعروا بالتهميش.لكن، برغم التفاؤل الذي أحاط بهذا الاتفاق، فإن الطريق نحو السلام لا يخلو من التحديات؛ فبعد سنوات من القتال، يظل بناء الثقة بين السكان المحليين والحكومة أمراً صعباً، خاصة أن بعض الفصائل داخل الحركة لا تزال مترددة في القبول الكامل بالحل السلمي.
 
إضافة إلى ذلك، يمثل توفير التمويل اللازم لتنفيذ مشاريع التنمية عقبة كبرى، حيث تحتاج السنغال إلى دعم شركائها الدوليين والمؤسسات المالية لضمان تنفيذ خططها الطموحة. كما أن التزام جميع الفصائل المتمردة ببنود الاتفاق أمر بالغ الأهمية، إذ لا تزال هناك مجموعات غير راضية عن بعض التفاصيل، وقد ترى أن مطالبها لم تُلبَّ بالشكل الكافي.
 
لقد أدّت غينيا بيساو دوراً ديبلوماسياً محورياً في تحقيق هذا الاتفاق، مستفيدة من علاقاتها التاريخية والثقافية مع سكان كازامانس. فقد استضافت العاصمة بيساو عدة جولات من المحادثات، ونجحت في تقريب وجهات النظر بين الطرفين، إذ قدمت ضمانات سياسية أسهمت في تبديد المخاوف من كلا الجانبين. ولم يكن هذا الدور مجرد محاولة للوساطة، بل عكس رغبة غينيا بيساو في تحقيق استقرار إقليمي حقيقي، وخاصة أن النزاع في كازامانس أثّر عليها أيضاً من خلال تدفّق اللاجئين إلى أراضيها وتهديد أمن حدودها.
 
ولئن شكّل هذا الاتفاق خطوة تاريخية نحو السلام، فإنه لا يعني بالضرورة أن النزاع انتهى بالكامل، بل يمثل بداية مرحلة جديدة تتطلب متابعة مستمرة وتنفيذاً دقيقاً لبنوده على أرض الواقع. ولن يكون تحقيق الاستقرار في كازامانس مسؤولية الحكومة وحدها، بل يحتاج إلى مشاركة نشطة من المجتمع المدني، الذي يتعيّن عليه أن يؤدي دوراً رئيسياً في المصالحة بين السكان وضمان احترام الحقوق المدنية للجميع. كما ينبغي للإعلام أن يظل حاضراً ويقظاً بقوة لتغطية التطورات وضمان تنفيذ الاتفاق بشفافية.
 
في ظل قيادة رئيس الوزراء عثمان سونكو، تُظهر السنغال إرادة حقيقية لإنهاء هذا النزاع الذي طال أمده. فسونكو لا يسعى إلى إنهاء العنف وحسب، بل يطمح إلى بناء نموذج يمكن أن يُحتذى به في مناطق أخرى من أفريقيا تواجه نزاعات مماثلة.
 
إن نجاح هذا الاتفاق لن يكون مكسباً سياسياً للحكومة فحسب، بل سيكون نقطة تحول قد تسهم في تعزيز الاستقرار في منطقة غرب أفريقيا بأكملها، في وقت تتزايد فيه التحديات الأمنية، مثل انتشار الجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء. ومع ذلك، فإن استمرار نجاح هذا الاتفاق يعتمد كثيراً على مدى قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الإقليم وسكانه، وعلى استعداد المتمردين السابقين لترك السلاح والانخراط في المجتمع.
 
إن الأيام المقبلة وحدها كفيلة بإبراز نجاعة هذا الاتفاق، لكن الأكيد أن سكان كازامانس يتطلعون إلى مستقبل مختلف، يكون فيه السلام واقعاً ملموساً، لا مجرد حلم واهٍ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد