مبارك الهزاع
في مجتمعاتنا، حيث تُضرب الرجولة بمطرقة القسوة ويُصاغ معدنها من جفاف المشاعر، بات بكاء الرجل جريمة غير معلنة، وخطيئة لا تُغتفر، كأن الدموع تسرق من هيبته شيئاً أو تنقص من مكانته. كبرنا على عبارات مثل «الرجل لا يبكي»، «الدموع ضعف»، «كن صلباً»، حتى تحول هذا المفهوم إلى وحش نفسي ينهش أرواح الرجال، ويفتح عليهم أبواب الكبت والاكتئاب والانعزال.
لكن، دعونا نسأل أنفسنا: هل هذه الصورة عن الرجولة حقيقية؟ أم أنها نسخة مشوهة فرضتها ثقافة لا تمت للإنسانية بصلة؟ لو كانت الدموع ضعفاً، فكيف بكى الأنبياء؟
حين نتأمل في قصص الأنبياء، نجد أن الدموع كانت لغة قلوبهم، لا علامة ضعفهم. النبي يعقوب، بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، عليهما السلام، ولم ينقص ذلك من مكانته العظيمة. النبي محمد ﷺ بكى لفقد أحبابه، بكى في الصلاة، بكى على أمته، بل إنه بكى عندما فقد ابنه، وقال: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا».
وها هو النبي نوح، بكى خوفاً على قومه، والمسيح عيسى، بكى من قسوة قلوب بني إسرائيل. فكيف يمكننا بعد كل هذا أن نعتبر الدموع نقصاً؟!
حين يُجبر الرجل على حبس دموعه، لا يعني ذلك أنه صار أقوى، بل إنه صار قنبلة موقوتة. تراكم المشاعر المكبوتة يصنع في داخله جروحاً لا تلتئم، يحوّله إلى شخص مضطرب، يعاني بصمت، يُغلق أبواب قلبه حتى أمام من يحب، لا يعرف كيف يعبّر عن حزنه، ولا كيف يطلب المساعدة. كم من رجل انتهى به الحال في اكتئاب شديد لأنه لم يجد مساحةً ليبكي فيها؟ كم من رجل فقد شغفه بالحياة لأنه صدّق الكذبة القائلة بأن البكاء ضعف؟
الدموع ليست علامة ضعف، بل دليل على أن القلب لا يزال حياً، وأن النفس قادرة على الشعور والتفاعل. بكاء الرجل لا يجعله أقل رجولة، بل يجعله أكثر إنسانية. الفرق الوحيد بين الضعف والقوة ليس الدموع، بل في السبب وراءها، وفي القدرة على النهوض بعدها. الرجل الحقيقي هو من يملك القوة ليعبر عن نفسه، ليواجه حزنه، ليعترف بألمه، ثم يمضي قدماً بإرادة أقوى.
فلنتوقف عن تصدير صورة الرجل «الصامت القاسي»، ولنبدأ في تصدير صورة الرجل «القوي الحساس»، لأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على التوازن، لا في التشدد الأعمى. بكاء الرجل لم يكن مشكلة في زمن الأنبياء، فلماذا أصبح كذلك اليوم؟