ربما يكون العراقيون، أصحاب المكتبات الخاصة، الأكثر حَيرة مِن غيرهم، مكتبات حملوها على كواهلهم، مِن مهجرٍ إلى آخر، وقد طال انتظار العودة، فما أنْ تنتهي حِقبة حالكة إلا وأتت الأحلك، هذا كان هاجس مير بصري (ت: 2006)، ونجدة فتحي صفوت (2013)، محمّد مكيَّة (ت: 2015) ومئات سواهم.
كتب لي الصّديق الباحث جليل العطية، رسالة خطية، قائلاً: «أذكر أنك كتبت يوماً عن مصائر مكتبات العراقيين بعد الرَّحيل، أنا منذ نحو ثلاث سنوات أجهز مكتبتي، وهي تتكون مِن عشرة آلاف كتاب ومطبوع، جمعتها، خلال ستين عاماً، وهي تضم نفائس الكُتب التّراثيَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة إلى آخره، ولقد عرضتُ الأمر على عدة جامعات ومؤسسات عراقيَّة، فلم أحظ بطائل... لا أريد سوى أن تُودع في جناح يحمل اسمي..».
علاوة على أنّ جليلاً جليلٌ في بحوثه، ويشعر بالألم على ما وصلته بلاده مِن المستوى الكارثي، بينما الثروات تُنهب شرقاً وغرباً. كانت بلاد الأدب والعِلم، والقول لأبي أحمد بن أبي بكر الكاتب، وليس مجروحاً بشهادته، فهو مِن بلاد ما وراء النّهر: «حذا فِي قرض الشّعْر حَذْو أهل الْعرَاق، وَسَار كَلَامه فِي الْآفَاق» (الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر)، قال: «لَا تعجبن من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزاً من الْأَدَب». مَن يرى ما يُشرعه القوم اليوم في الأحوال الشّخصيّة، والرّسم بمناسبات طائفيّة، له الحقّ بتجاهل ما قاله ابن الكاتب، وما استغاث به العطية، الذي يكفيه «الذَّخائر الشّرقيّة»(سبعة مجلدات) وفاءً لأستاذه كوركيس عواد (ت: 1993) باعاً.
تلك مقدمة لِما حارت به نجود نوري جعفر (1914-1992) بإعادة نشر مؤلفات والدها، العظيمة كماً ونوعاً، بعد صدِّ النَّاشرين عنها، وكانت علوماً وأفكاراً أصيلة. بعدها وجدت طريقاً، لفتح مكتبة والدها للباحثين والقارئين، فأنْشأَت «مكتبة نوري جعفر الضَّوئيَّة». هذا الاختراع الرَّهيب العجيب، لم يشهده جعفر، ثمرة العقل الإنسانيّ، الذي بذل جهداً في دراسة آلته الدَّماغ، ومعلوم لا يبل الزَّمان الورق الضَّوئي.
لولا ركن في المكتبة يُشعرنا بالأسى، وهو«الكتب المفقودة»، منها: «القدرات العقلية النادرة في الرياضيات مِن وجهة نظر علوم الدّماغ»، و«الصّراع الأيديولوجي في العلم الحديث»، و«بين الفسلجة وعلم النّفس»، ولعلّ وراقاً شغوفاً يكشف عنها.
ربط تلميذ السّيكولوجي جون ديوي، ما كتب كافة بتخصصه الأول، فعندما تناول الجاحظ (ت: 255هجرية) أخذ تأثيره السّيكولوجيّ، والأصل كان بحثاً لمؤتمرٍ بالبصرة، بمناسبة ألفية ابنها (1983)، وكتب عن «إخوان الصّفا»: «علة النّفس في رسائل إخوان الصَّفا» (آفاق عربية 5/1978)، وهذا هو العلم وأُصوله، فالأشجار تُعرف بثمارها.
عند بحثه عن الجاحظ وإخوان الصَّفا تجده مؤرخاً وسيكولوجيَّاً، حلَّل التّاريخ فلسفياً، ووقائعه سيكولوجيَّاً، مصنفاً «التّاريخ مجاله وفلسفته». لذا، تراه دخل التّاريخ ولم يبرحه، فجاءت مؤلفاته بصبغة تاريخية، أساسها السَّايكولوجيَّة.
ما هو دافعُ جعفر إلى تأليف «الجوانب السّكيولوجيَّة في أدب الجاحظ»؟ غير شغفه بأشهر صُناع التّراث. كما إعجابه بعليّ بن أبي طالب، جعله يصنف «فلسفة الحُكم عند الإمام» (1957)، دون مس عقله بلوثة طائفيّة، وكأنه يرد على مَن مس عقله بها مِن موقع السّلطة. كما عشق العربية، مصنفاً «مواطن الأناقة والجمال في اللّغة العربيّة».
أرى الضّوء منفذاً لمَن تقلقهم مصائر تركاتهم الفكرية، مَن حاصرتهم الظروف وأعجزتهم، فالمكتبة الضّوئية حلاً، وصحائف الضوء تبقى مدى الأيام والأحقابِ، محروسة ناجية مما قد تدمره النّزاعات المبتذلة اليوم، ومِن التمادي بالجهل ضدها. فكم أمست أوراق مؤلفات أعاظم، أستهلكوا أبصارهم وكتل أعصابهم بها، لاستعمال البقالات، ووقوداً للمواقد، وهنا ليس أحصنُ مِن خزانة الضَّوء.
تجدر الإشارة إلى خطأ شاع، بلا تمحيص، عن وفاة نوري جعفر، مقتولاً بليبيا، الصَّواب «مات حتف أنفه»، أقولها براءة لليبيين مِن دمهِ.