أزراج عمر
ندّد عدد من الأحزاب السياسية الجزائرية في الأسبوع المنصرم بالفساد المالي الذي ظهر بعض علاماته السلبية مؤخّراً، جراء شراء بعض المترشحين للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 7 أيلول (سبتمبر) المقبل توقيعات المواطنين والمناضلين في الأحزاب والمجالس المنتخبة، مقابل مبالغ مالية لم يتمّ بعد الإعلان عن قيمتها، وعن الطرق التي تمّت بواسطتها، وأين تمّ تخزينها وتحويلها.
في هذا الخصوص، ذكرت مصادر مطلعة، أن أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني عبد الكريم مبارك، حذّر منذ مدة مناضلي حزبه من التورط في مثل هذه الأعمال المشينة التي تسيء إلى أخلاقيات الممارسة السياسية في الجزائر. وفي الوقت نفسه، أكّد أنه سيقوم بتطهير حزبه من أي متورط في هذا العمل غير الأخلاقي، بفصله بصفة حاسمة ونهائية من الحزب.
وتوضح تصريحات أحزاب أخرى، مثل حركة مجتمع السلم (حمس) بزعامة أمينه العام عبد العالي حساني، وعبد القادر بن قرينة الأمين العام لحزب حركة البناء الوطني، أن شراء التوقيعات ليس مجرد جنحة سياسية وانحراف اجتماعي، بل هو طعنة موجّهة إلى قوانين هذين الحزبين. ولذلك، هدّدا بفصل كل الذين قاموا بمثل هذا الانحراف من عضوية حزبيهما، سواء كانوا من أقطاب الحزبين أم من الأعضاء البسطاء الذين ينشطون على مستوى فضاء الجزائر العميقة.
لا شك في أن محاسبة المتورطين في هذا النوع من الفساد المالي والسياسي معاً أمر ضروري ومستعجل وينتظره المواطنون الجزائريون بفارغ الصبر، وذلك للضرب على أيدي "شلل" معروفة بانحرافاتها وسلوكها المعادي للعمل السياسي النظيف في البلاد، وهي تُعتبر من ذيول المراحل السياسية السابقة التي يعيد المنتمون إليها إنتاج ثقافة العصابة الحاكمة سابقاً، وبخاصة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
في هذا السياق، يتساءل خبراء سياسيون جزائريون عاصروا مختلف مراحل الاستقلال الوطني: هل تقتصر ظاهرة الفساد المالي والسياسي على جزئيات من العمل السياسي الجزائري في مراحل حكم الشاذلي بن جديد لغاية مرحلة عبد العزيز بوتفليقة، أم أن ظاهرة هذا الفساد ترجع إلى البدايات الأولى لاستقلال البلاد أيضاً؟
في الواقع، عرف المشهد السياسي الجزائري حالات كثيرة من إقحام الفساد المالي في الممارسة السياسية، بدءاً من الحادثة المعروفة بحادثة "صندوق التضامن الوطني" الذي يُقال إنه تعرّض للنهب في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة، علماً أن ملف هذا الصندوق لم تُفتح إضبارته في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين.
وتؤكّد المصادر التاريخية أيضاً، أن الخلاف الجوهري بين بن بلة ومن ثم بومدين من جهة، وبين الزعيم الثوري الجزائري محمد خيضر، الذي يعدّ شخصية قطبية بارزة ضمن صفوف جبهة التحرير الوطني، كان سياسياً، لكن كانت له تداعيات مالية. وفي هذا الصدد، كتب أحد المعلقين في نشرة "أصوات مغاربية" قائلاً: "على خلاف ما كانت تتوقعه غالبية المتتبعين لمسار الثورة الجزائرية، فقد دخل أكبر القادة التاريخيين في صراع سياسي كبير تسبب في اضطرابات كبيرة عاشتها البلاد في فجر استقلالها". ثم أضاف: "كان محمد خيضر يملك أوراق ضغط كبيرة استعملها ضدّ السلطة وقتها، بالنظر إلى المنصب السياسي الرفيع الذي كان يحتله والذي يمنحه، وحده دون غيره، الحق في التصرّف في جميع ممتلكات الحزب، وبخاصة الأموال التي كانت مودعة في بعض البنوك الأجنبية"، أي في بنوك سويسرا.
أدّى هذا الخلاف بشأن ما كان يُدعى "كنز الجزائر" المودع في البنوك الأجنبية إلى صراع سياسي محتدم، تكلّل بلجوء خيضر إلى المنفى، وبعد ذلك تمّ اغتياله في إسبانيا في ظروف غامضة، في عهد الرئيس هواري بومدين.
والحال أن الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي تولّى حكم الجزائر 13 سنة من عام 1979 إلى عام 1992، سجّل شهادة حيَّة في كتابه "مذكرات الشاذلي بن جديد – الجزء الأول 1929-1979"، أوضح فيها بصريح العبارة أن عبد العزيز بوتفليقة أعاد بعض ملايين الدولارات التي كان قد وضعها في البنوك الأجنبية، أي في سويسرا تحديداً، عندما كان وزيراً للخارجية، إلى الخزينة الوطنية. أما الجزء الآخر من تلك الأموال فقال الشاذلي بن جديد إنه لا يعرف مصيرها. ويبدو واضحاً أن تفاصيل هذه الحالة التي تصنّف واحدة من مظاهر الفساد المالي في الحياة السياسية الجزائرية لا تزال معلّقة، ولم تُعالج قضائياً وسياسياً.
في الواقع، إن حيثيات ذيول تداعيات قضية "الخليفة بنك"، المدعو بالفتى الجزائري الذهبي عبد المؤمن رفيق خليفة، تشهد بدورها على تورط كثير من السياسيين الجزائريين في الفساد المالي. وزيادة على ذلك، فإن التحويلات المالية المسرّبة إلى البنوك الأوروبية بملايين الدولارات، وكان يموّل بها هذا الرجل مشاريعه المختلفة ومنها "الخطوط الجوية الخليفة"، ومحطة "تلفزيون الخليفة" التي كان مقرّها الرئيسي في باريس ومقرّها الفرعي في لندن. وهناك علامات استفهام كبيرة حول تورط إعلاميين وسياسيين جزائريين في نهب أموال تلك المحطة، وحتى كاميراتها.
هناك طبعاً حالات كثيرة أخرى تشهد على تزامن الفساد السياسي مع الفساد المالي، ومنها على سبيل المثال تلك الأموال التي سخرها الرئيس بوتفليقة لحملاته الانتخابية الرئاسية على نحو خاص، والتي عيَّن لها في كل محافظة (ولاية) لجنة مكونة من إداريين وحزبيين، وكان على رأسها، مثلاً، في محافظة معينة ومعروفة مسؤول هو أحد مؤسسي حزب معروف. وجراء شتَّى التلاعبات مثل نفخ الفواتير، فقد تمّ نهب مليارات الدنانير.
في الحقيقة، هبّة الحراك الشعبي التي أسقطت مشروع انتخاب الرئيس بوتفليقة للمرّة الخامسة ساهمت في الكشف عن تورط كثير من السياسيين الجزائريين الذين يُدعَون في الأدبيات السياسية الجزائرية رموز عصابة الفساد المالي والسياسي، الذين يوجد بعضهم الآن في السجون، ولاذ بعضهم الآخر بالفرار إلى الخارج، حيث لا تزال مصالح الدولة في عهد الرئيس عبد المجيد تبون تواصل راهناً تصفية ملف الفساد المالي ومحاكمة المتورطين فيها، وتتابع قضائياً الهاربين من العدالة، وتنتظر من الجهات الأجنبية تسليمهم ليُحاكموا على أرض الجزائر.
والجدير بالذكر في هذا الخصوص، أن الرئيس الجزائري الحالي صرّح مرّات عدة، في لقاءاته مع وسائل الإعلام الجزائرية، أنه تمّ في عهده استرجاع مبلغ 50 مليار دولار من الأموال المنهوبة.