تتجسَّد روحُ المنافسة الأميركية في «سباق الدجاج» الذي جسده جيمس دين في مقطعٍ من الفيلم الشهير «متمرد بلا سبب» (Rebel Without a Cause) 1955، إذ يتسابق مع صديقه بسيارتين نحو الهاوية، ليفوز من يوقفها أقرب لحافتها. في ثقافتنا نسمي هذه اللعبة «عض الإصبع» لعنترة العبسي، حيث يخسر من يصرخ من ألمه أولاً.
هذه الأيام، بطريقة أو بأخرى، تلعب الدول الكبرى، بعضها ضد بعض، اللعبةَ ذاتها. ليتدحرج عالمنا نحو مجابهة واسعة يزداد احتمالها يوماً بعد يوم. بدءاً من الشرق الأوسط، أو أوروبا، أو بحر الصين، فلا شك أن تداعياتها ستتردد في أرجاء العالم بأسره.
فلقد تبدلت، منذ حرب أوكرانيا، الفلسفة الاستراتيجية الغربية. وينظر لهذه الحرب كإثبات على فشل استراتيجيات الاحتواء الإيجابي لروسيا، عبر طمأنتها عسكرياً، ودمجها اقتصادياً، حيث يتهم الغرب روسيا باستخدام العلاقات الاقتصادية سلاحاً وليس أداة للتقارب.
حلت محل هذه الفلسفة رؤية معاكسة تماماً تقول إنه لا يمكن جر روسيا لطاولة المفاوضات إلا بردعها وإنهاكها استراتيجياً. وجوهر هذا الرهان هو اعتبار روسيا الحالية أضعف بكثير من الاتحاد السوفياتي، الذي سبق لأوروبا والولايات المتحدة أن تفوقتا عليه اقتصادياً وعسكرياً في الثمانينات من القرن العشرين.
بعد أن صار واضحاً أنه لا يمكن إثناء روسيا عن حربها ضد أوكرانيا، يخطط الغرب لحرب تدوم عقداً أو عقوداً. ليصبح الهدف الرئيسي للحرب «إنهاك روسيا» على عدة جبهات. بدءاً من إقحامها في سباق تسلح، سبق أن خسره الاتحاد السوفياتي عندما كان أقوى خمس مرات أكثر من روسيا المعاصرة، ثم إضعافها اقتصادياً بإجهاض قدرتها على شراء لوازم حربها، من إيران والصين وكوريا الشمالية، وإخراج نفطها من السوق العالمية، بدءاً من منابعه حتى أسواقه.
أوروبياً، وبسبب الإرباك الألماني، تصبح فرنسا القائد الطبيعي للقارة. كما أن موقعها البعيد عن ساحة المعركة يمكنها من المغامرة بمخاطر طفيفة، مقابل انتزاع دورها في زعامة أوروبا، بالاستفادة من قدرتها على تدوير مجمعها الصناعي العسكري بكفاءة أكبر من معظم الدول الأوروبية. فبعد أن فقدت الشركات الفرنسية إوزتها الذهبية في روسيا، تحولت نحو ريادة القارة الأوروبية استراتيجياً، والقبول بتحدي المجابهة مع روسيا.
بدورها تعمل أوكرانيا على تبريد الصراع بمحاولتها فتح المحادثات مع روسيا، لكنها، في الوقت ذاته، تعد لضربات خلف حدودها الغربية وفي محيط بيلوغراد. وتعد أيضاً لحرب أنصار داخل المناطق المحتلة، معولة على 25 مليون أوكراني يتحدثون الروسية بطلاقة.
أما ألمانيا، فتتحدث عن إعداد الجيل القادم للحرب! فعبر ثلاثة عقود من النيرفانا السلمية الاستراتيجية، كانت ألمانيا عرابة اتفاقيات حظر الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا. ودفعت نحو تطبيق اتفاق ريغان وغورباتشوف بالابتعاد عن حافة الهاوية، وإخراج الأسلحة المتوسطة من ساحة الصراع. اعتمد منطق هذه الاتفاقيات على إجهاض احتمال حرب نووية تكتيكية، بحيث تقتصر مخاطر المجابهة على احتمال الاشتباك بالصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات، التي من المرجح أن أياً من الجانبين لا يرغب، ولا مصلحة له، في أن ينزلق نحوها.
أما الآن فتطالب ألمانيا بإعادة نشر هذه الصواريخ في أوروبا. وفيما تتهم الولايات المتحدة روسيا بخرق اتفاقيات حظر الصواريخ المتوسطة (INF)، تحركت، منذ عهد ترمب، نحو الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة في أوروبا. وبعد إحجام الولايات المتحدة لما يقارب الخمسين عاماً عن تطوير ونشر هذه الصواريخ، تعود لتنفض الغبار عن الصواريخ الفوق صوتية و«توما هوك - كروز»، وتنشرها في ألمانيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدوفا والقسم الشمالي الشرقي من رومانيا وبولندا وصولاً إلى القوقاز، وآسيا الوسطى.
ولا يقتصر السباق نحو حافة الهاوية على أوروبا فحسب، بل يمتد نحو بحر الصين.
ينظر الاستراتيجيون الأميركيون بقلق لاندفاع الصين لتوسيع نفوذها في بحر الصين وجنوب آسيا، فيما يعدّونه تهديداً صينياً لحلفاء الولايات المتحدة؛ اليابان والفلبين وتايوان وإندونيسيا وسنغافورة، خصوصاً بعد أن صارت هذه البلدان في مطال الصواريخ الصينية متوسطة المدى 500 إلى 5000 كم. ويرى هؤلاء الباحثون أن سبب توسع نفوذ الصين يكمن في تراجع الردع الاستراتيجي الأميركي في الباسيفيك، نتيجة لتكبيل أميركا يديها في اتفاقات حظر الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا. لتبدو الصين المستفيد الأول من هذه الاتفاقات. يفسر هذا المنطق التحرك الحثيث لأميركا وحلفائها لنشر جماعي لأنظمة الأسلحة متوسطة المدى على امتداد الساحل الصيني.
وهكذا ترتسم خطوط النار على مدار كرتنا الأرضية. وفيما تدفع القوى الكبرى بعالمنا نحو حافة الهاوية، يشهد العالم بعجزها التام عن كبح جماحها في اللحظة الأخيرة، ومنع العالم من السقوط في الهاوية.