كما اتضح في المقالة السابقة، أن ذكرى كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بدأت ندماً ممن خذلوه (أهل الكوفة) ثم تطورت بعد قرون لتصبح مناسبة سياسية ليس لها أصل ديني، هدفها التحريض ضد “الدولة” ثم ضد السنة والعرب، خصوصاً بعد قيام الجمهورية الإسلاموية الإيرانية إذ تستخدم إيران ومن والاها وميليشياتها (وليس الشيعة كلهم) هذه المناسبة للتجييش والاستقطاب وذريعة لمشروعها التوسعي الإلغائي الشرير، والأخطر من ذلك، ربط المذهب الشيعي بالهوية القومية الفارسية، والدليل على ذلك تعظيم عيد النيروز الذي لا صلة له بالإسلام، ويقول حسين العودات في كتابه “صورة العرب لدى الآخر في ضوء العلاقات التاريخية”: إن الإحياء الفارسي لمأساة كربلاء هو في حقيقته إحياء لهزيمة “القادسية”، وأن نواحهم على سيدنا الحسين – رضي الله عنه – هو في حقيقته نواح على رستم.
وما يؤكد أن سيدنا الحسين – رضي الله عنه – خذله أنصاره، قيامُ حركة التوّابين، وهي حركة قامت ندماً على خذلان الحسين، إذ يمكن تقسيم تعامل أهل الكوفة مع الثورة الحسينية كما يلي: الفئة القليلة، وهي التي بايعت وثبتت على موقفها. الفئة الثانية هي التي دعَت الحسين ثم مالت للوالي عبيد الله بن زياد (ابن مرجانة الفارسية) حين رجحت كفته. والفئة الثالثة هي الفئة الصامتة التي لم تبايع الحسين ولم تنصره.
وبالنظر إلى تركيبة الجيش الذي قاتل الحسين، وتاريخ بعض شخصياته، نلاحظ أن خلفيات بعض القتلة الملاعين جديرة بالتأمل:
– شمر بن ذي الجوشن: كان ممن بايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وشارك في معركة صفين إلى جانبه، لكنه تمرد عليه في فتنة الخوارج، وبعد ذلك شارك في “كربلاء” ضمن قتلة الحسين.
– شبث بن ربعي اليربوعي: من الشخصيات المتقلّبة، أسلم ثم ارتدّ مع سجاح مدّعية النبوّة، ثم عاد إلى الإسلام، وبعدها خالف الخليفة عثمان بن عفان، قاتَلَ مع علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – في صفّين، والتحق بالخوارج بعد التحكيم، ثم عاد إلى علي وقاتل معه في “النهروان”، وكان ممن سأل سيدنا الحسين القدوم إلى الكوفة ومبايعته، وحين أرسل الحسين مسلم بن عقيل إلى العراق استجاب شبث لعبيد الله بن زياد وقام بتفريق الناس من حول مسلم، وأخيراً قاتل الحسين في كربلاء.
– قيس بن الأشعث: كان من الذين كتبوا للحسين يدعونه للقدوم إلى الكوفة، إلا أنَّه التحق بجيش عمر بن سعد، وهو الذي سلب قطيفة سيدنا الحسين بعد مقتله، ولذا اشتهر بـ”قيس قطيفة”.
– ابن حوزة الكوفي: كان من أنصار الحسن – رضي الله عنه – في قتال معاوية.
– إسحاق بن حيوة: أسهم في تجهيز جيش الحسن بن علي – عليه السلام – لقتال معاوية بخيول وإبل.
– حجار بن أبجر وزيد بن الحارث: نادى الحسين يوم عاشوراء بجيش عمر بن سعد وقال: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس ابن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتُبوا إِليَّ في القدوم عليكم؟ فأنكروا ذلك وقال لهم الحسين: بلَى فعلتم.
أما الاستخدام السياسي الصرف لمأساة مقتل الحسين، فتثبته الدعوة إلى “الثأر” لا القصاص، فكل قتلة الحسين نالوا عقابهم الأرضي أو السماوي، منهم من مات مكروهاً منبوذاً مقهوراً، ومنهم من تم قتله أو صلبه أو قطعت أطرافه، وحتى إن لم يحصل ذلك فكلهم أصبحوا بين يدي الحق العدل سبحانه وتعالى. ومما يثبت الاستغلال السياسي لهذه المأساة البشعة والنكراء – أيضاً- إهمال شهداء آخرين من آل البيت لا يمكن المتاجرة باستشهادهم سياسياً.
ومن أجل كل ما سبق، ولإغلاق باب من أبواب الفتنة، هذه دعوة لأن يتبنى الخطاب الشيعي في سياق التجديد الديني اللازم والواجب للقضاء على الغلو والتطرف، مشروعاً يلغي إحياء ذكرى كربلاء، التي لا يجني المسلمون من خلفها إلا الفتنة والكراهية، واستبدالها، بتخصيص يوم العاشر من محرم كلَّ عام، يوماً للاحتفال بمكانة أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله في الإسلام، استناداً إلى قوله تعالى: {ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}، فيكون هذا اليوم من كل عام رمزاً لوحدة المسلمين – الذين يحبون جميعاً الأهل والآل – وإشاعة المحبة ونبذ الخلافات الطائفية والمذهبية، وهو ما يليق بسيدنا محمد وأهله وآله، وفيه تنفيذ لوصية المصطفى: “أذكركم الله في أهل بيتي”.
وَروى لي من عاصر الاحتفال بعاشوراء في لبنان قبل العصر الإيراني البغيض أجواء تلك الاحتفالات بقوله: كان احتفالاً خالياً من الاستغلال السياسي ومن النفس الطائفي المذهبي وإثارة النعرات، وكان يشارك فيه الأعيان والوجهاء من مختلف الطوائف، وكان الخطباء في مجالس عاشوراء من غير الشيعة أكثر من الشيعة، وكان يوم العاشر من محرم عرساً للعمل الخيري.
والحق أن ما رواه الشاهد يُذكّر على الفور بمحبة آل البيت في أغلب الثقافة المصرية، وهي محبة خالية من المزايدة ومن المتاجرة ومن المصالح، لذلك هي محبة صحيحة تجمع ولا تفرق، وما يلفت النظر في المقابل، أن الإحياء الفارسي والعراقي لمأساة كربلاء ولمحبة آل البيت يبدو أن هدفها إشاعة النواح والآلام، ويشبهون في ذلك بعض السلفيين الذين بنوا خطابهم الوعظي لعقود على أساس عذاب القبر والخلود في نار جهنم، وهذه حالات تستدعي دراسات نفسية وعلاجية، فالمنطق يقول إن من يشعر بالألم يستهدف الشفاء لا تعميم الألم والأحزان وتحويل حياة الآخرين إلى جحيم.
الأخطر في النسختين الإيرانية والعراقية من إحياء ذكرى كربلاء استخدامها لتجنيد شباب الشيعة في سبيل الموت المجاني، لقد خرج الحسين في إطار رؤية تقدم مشروعاً جديداً للسلطة هدفه الإصلاح، وحين وجد – رضي الله عنه – أن هذا المسار لا أفق له قال لعمر بن سعد: “اختر واحدة من ثلاث، إما إن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإما إن تدعوني فاذهب إلى يزيد، وإما إن تدعوني فألحق بالثغور”، فقبل ذلك عمر، وكتب إليه عبيد الله بن زياد: “لا، ولا كرامة، حتى يضع يده في يدي”. ومن هنا جاء رد الحسين المشهور: “ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة أو الذلة – وهيهات منا الذلة”.
إذن، فإن ما جعل المأساة أفظع، هو أن إحتمال السلم كان وارداً لولا صلف ابن زياد وطغيانه، وكان في ذلك، لو تحقق، تكراراً لصلح سيدنا الحسن – عليه السلام – مع معاوية، والذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل عقود في سياق الثناء: “إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”، وعليه فإن الحسن والحسين “سيدا شباب أهل الجنة” دعاة سلم وحياة وإصلاح، لا دعاة قتل وإرهاب وانتحار.
إن أسوأ ما في الاستغلال السياسي الإيراني لذكرى كربلاء، هو اتخاذها ذريعة لصنع ميليشيات طائفية وإرهابية في دنيا العرب، توفر دماء الفرس من جهة، وتخدم مشروعهم التوسعي من جهة أخرى، فيتم تجنيد عرب ومسلمين من أجل قتل عرب ومسلمين، والحسين من ذلك براء.