هل صادفكم في الحياة أشخاص، تلتقونهم للمرة الأولى، ولأنكم لا تعرفون حتى أسماءهم، تسألون الواحد منهم: «ما اسمك الكريم؟»، فلا يكتفي بذكر اسمه، وإنما يلحقه بقائمة عن صفاته وإنجازاته، ناهيك عن أصله وفصله. ما أكثر ما نقول حين نبدأ حديثنا بمفردة «أنا»، عارفين بأن ما يليها يدخل في خانة مديح الذات: «أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا»، ثم نكمل العبارة، في نوعٍ من الاعتذار المضمر، والمسبق، لسامعنا، عما قد يلمسه في حديثنا من ادعاء أو اعتداد غير محبب بالذات، وينقل عن ابن القيّم قوله: «وليحذر كُلَّ الحذرِ من طغيان «أَنَا»، «وَلِي»، «وَعِنْدِي».
في مؤلفه الشهير «الحيوان» أورد الجاحظ حكاية عن رجلٍ يُكنى بأبي عبدالله، أُدخل على طاهر بن الحسين الذي كان يعرف أن الرجل من خراسان، فسأله: «منذ كم وأنت مقيم بالعراق يا أبا عبدالله، فقال: أنا بالعراق منذ عشرين عاماً، وأنا أصوم الدهر منذ أربعين عاماً»، فضحك طاهر وقال: سألناك يا أبا عبدالله عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين»، وهي حكاية يصحّ أن يسبق فيها أبو عبدالله حديثه عن صومه الدهر لأربعين عاماً: «أعوذ بالله من كلمة أنا»، لأنه سئل عن أمر فأراد أن يظهر أمام السائل أن له قيمة تتخطى سؤاله.
إذا كانت هذه الحكاية تندرج في خانة الادعاء أو التباهي، فإن حكاية أخرى أوردها الجاحظ تنمّ عن شيء من «المكر»، وجاء فيها: «حدثني مُويّس بن مروان، قال: قال رجل منهم لصاحبه، وكانا إما متزاملين، وإما مترافقين، لمَ لا نتطاعم؟ فإن يد الله مع الجماعة، وفي الاجتماع البركة، وما زالوا يقولون: طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة، فقال له صاحبه: لولا أعلم أنك آكل مني، لأدخلت لك هذا الكلام في باب النصيحة، فلما كان الغد، وأعاد عليه القول، قال له: يا عبدالله معك رغيف ومعي رغيف، ولولا أنك تريد الشرّ ما كان حرصك على مؤاكلتي. تريد الحديث والمؤانسة؟ اجعل الطبق واحداً ويكون رغيف كل منا قدام صاحبه»، محذراً إياه من أن يأتي على نصف الرغيف الآخر، بعد أن ينتهي من أكل رغيفه.
لا بأس من حكاية «جاحظية» ثالثة ننهي بها الحديث، وتندرج في خانة «التوفير»، أو «البخل»، كون العلاقة بينهما ملتبسة، حيث ينقل الجاحظ عن سعيد أبي سجادة قوله: «ناس من المروازة إذا لبسوا الخفاف في الستة الأشهر التي لا ينزعون فيها خفافهم، يمشون على صدور أقدامهم ثلاثة أشهر، وعلى أعقاب أرجلهم ثلاثة أشهر، حتى يكونوا كأنهم لم يلبسوا خفافهم إلا ثلاثة أشهر مخافة أن تنجرد خفافهم أو تنقب».