قد تكون المجزرة المتعمدة التي ارتكبتها إسرائيل بحق خيام النازحين في رفح هي العنوان الأبرز لحرب معلنة على العدالة الدولية بكل مؤسساتها، سواء كانت محكمة العدل أو المحكمة الجنائية، أو غيرهما من المؤسسات الأممية، رغم أن هذه الحرب كانت تدور بالفعل منذ زمن طويل لإدامة بقاء إسرائيل دولة فوق القانون وبمنأى عن أي محاسبة.
لا حاجة للعودة إلى الوراء كي نكتشف أن تاريخ إسرائيل منذ إنشائها يتناقض مع العدالة ولا يعترف بها، ف«الإبادة الجماعية» ليست وليدة اليوم وإنما كانت قائمة منذ عقود ولا تزال مستمرة حتى الآن. وبالتالي ظلت الحرب الإسرائيلية على العدالة على رأس أولويات القادة الإسرائيليين منذ جابوتنسكي ومناحيم بيغن وحتى بنيامين نتنياهو. هؤلاء وضعوا مفاهيم خاصة للعدالة تقوم على اقترانها بالقوة، لأسباب إيديولوجية وسياسية، وهو مفهوم يتلاقى مع مصالح الداعمين في واشنطن والغرب عموماً، ممن تبنوا الرواية الإسرائيلية بحذافيرها، وسمح لها بالهيمنة على العالم الغربي من وسائل الإعلام إلى صانعي القرار في العواصم الغربية. وبالتالي فقد بات لزاماً على هذه العواصم كل أشكال الدعم والحماية والغطاء السياسي لإسرائيل في المحافل الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة ومؤسساتها، ما جعلها تعتقد أنها بمنأى عن أي مساءلة، وأنها أصبحت فوق القانون.
وعلى هذه الخلفية، استبقت إسرائيل قرار محكمة العدل الدولية بشأن رفح بإعلان رفضها لوقف الحرب، سواء في رفح أو في بقية أنحاء القطاع. كما أنها لم تمتثل «للخط الأحمر» الأمريكي بشأن عدم اجتياح شامل للمدينة المكتظة بالسكان، ونقل النازحين إلى مناطق آمنة، وهي تدرك أن إدارة بايدن قبل أشهر قليلة من الانتخابات أضعف من أن تضع أية قيود على حربها ضد الفلسطينيين. وسبق ذلك أن هددت إسرائيل قضاة المحكمة الجنائية الدولية لمنعهم من إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير جيشه غالانت، وهو الأمر الذي فعلته واشنطن أيضاً وزادت عليه بالتهديد بإصدار عقوبات بحق قضاة المحكمة.
هذا الترهيب والتهديد، لم يتردد مدعي عام «الجنائية» في الكشف عنه خلال مقابلة صحفية، أكد فيها أن شخصيات سياسية كبيرة اتصلت به وهددته مع سائر قضاة المحكمة وعائلاتهم، لافتاً إلى أن إحدى هذه الشخصيات أبلغته بأن المحكمة الجنائية أنشئت من أجل إفريقيا ومن أجل الرئيس الروسي بوتين، وليس من أجل محاكمة إسرائيل وحلفائها في الغرب. بهذا المعنى فإن المحاكم الدولية والأمم المتحدة نفسها لا قيمة لها إذا لم توظف في خدمة أهداف الغرب وحلفائه. وبهذا المعنى أيضاً فإن مجزرة رفح ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فالمجازر ترتكب يومياً في قطاع غزة منذ نحو ثمانية أشهر من دون مساءلة، إلى الحد الذي جعل إسرائيل تعتقد أنه لا يوجد أي قوة على الأرض تستطيع منعها من ارتكابها.