قبل عقد من «طوفان الأقصى» الذي تحول إلى كارثة مأساوية للفلسطينيين، افتعل قادة الحركات الإسلاموية في القطاع حرباً عبثية مع دولة الكيان الصهيوني، وقبل أن تتوقف العمليات العسكرية أخذ قادة حماس في قطر والقاهرة يطلقون التصريحات ويتحدثون عن الانتصار الذي حققه الشعب الفلسطيني على العدو في حرب لم تتجاوز الخمسين يوماً، خسرت فيها حماس الكثير وأصبح ما يقارب نصف المليون من سكانها بلا مأوى، لدرجة دفعت بالكاتبة مايرا بار هيليل في مقال نشرته صحيفة ذي إندبندنت البريطانية للقول بأن أهل غزة مشغولون بدفن أطفالهم للدرجة التي لا يتمكنون فيها من التفرغ للحديث عن آلام الجرحى والمصابين من ضحايا العدوان الإسرائيلي في الحروب المستعرة منذ أسابيع.
بينما قادة حماس يملؤون القنوات بصوت المنتصر زوراً وهم يحدثون الناس عن صمود الشعب الفلسطيني وانتصاره في حربه مع العدو الصهيوني، ولا تدري أي خداع للنفس هذا وأي استهانة بأرواح الناس تلك التي تجعلهم يتحدثون عن النصر وهم كاذبون.
ألم يكن ذلك درساً كافياً ليجعل هؤلاء القادة يعيدون التفكير في إستراتيجية مقاومتهم، التي تحصد أرواح مواطني غزة التي أوقعها حظها العاثر تحت قبضة حماس وتهدم منازلهم ومستشفياتهم ومدارسهم وبنيان مدنهم وتشردهم حفاة جوعى، بينما في المقابل تنتهي نتائجها بتحقق إستراتيجيات عدوهم؟
لم تتعلم حماس شيئاً، فها هي وبعد عشر سنوات تعيد تكرار نفس «الخطأ» الكارثي مرة أخرى، الأمر الذي يجعلك تصنفه في خانة «الخطيئة» لا الخطأ.
فكانت الفاجعة أكبر مشاهد قاسية مؤلمة، شهور من القتل والجوع والتشريد والتنكيل. ويكفي المرء حزناً أن تصوم غزة الجائعة ولا يجد أهلها المنكوبون بحماس ما يسد جوعهم وسط حرب لا تعرف الرحمة.
خلال جلسة استماع في الكونغرس، سُئل وزير الدفاع الأمريكي أوستن عن عدد النساء والأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، فأجاب: أكثر من 25 ألف امرأة وطفل منذ السابع من أكتوبر، مضيفاً أن إسرائيل يمكنها ويجب عليها أن تفعل المزيد لحماية المدنيين.
فأي جدوى من هذه المقاومة التي تحصد أرواح مواطنيها المدنيين في كل مرة،
لقد خسرت حماس هذه المعركة بكل المقاييس العسكرية والسياسية، مثلما خسرت كل معاركها السابقة والشعب الفلسطيني هو من يدفع ثمن فاتورتها من دماء وأرواح ومستقبل أبنائه.
مؤكد، دفعاً لأي التباس أو سوء قراءة وتقدير من قبل المضحوك عليهم، بأننا لسنا ضد سلاح المقاومة الفلسطينية، فلا يمكن لأحد أن يجرّد الشعب الفلسطيني من حقه في استرداد وطنه، ولكن داخل إطار الحرب الفلسطينية الكبرى لتحقيق الهدف المقدس النهائي وهو استعادة الوطن والحق في الحياة بكرامة وحرية مع تقدير قوة العدو والإعداد الجيد والمستطاع له بعيداً عن ركوب ظهر حماس واستخدامها لتحقيق أجندة خاصة كوسيلة ضغط.
والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح بموضوعية: هل حماس تعمل وفق هذا المنظور؟
لا ينبغي أن ننقب في الضمائر والقلوب، ولكن الحواريين سألوا المسيح عيسى بن مريم عن الأنبياء الكذبة وكيف يعرفونهم فأجاب من ثمارهم تعرفونهم.
فما الذي تطرحه معارك حماس من ثمار لتغذية الحرب الفلسطينية الكبرى لاسترداد الأرض والكرامة والحقوق؟ هل تعكس هذه المعارك أجندة «فلسطينية» خالصة؟ هل تتغذى من تربة المعاناة الفلسطينية حصرياً؟ الواقع يجيب بالنفي، وبـ«لا» قاطعة.
فالقضية الفلسطينية التي لا يختلف اثنان على عدالتها، دخلت مع معارك حماس سوق المزايدات السياسة وحلبات الصراعات الطائفية والمذهبية، فاستحالت المعركة إلى معركة سياسية بين محاور إقليمية متشاكسة.
ما يمكن تأكيده هو أن حماس ولإحكام قبضتها على قطاع غزة، جعلت من نفسها عنواناً أوحد للقضية الفلسطينية برمتها، وتصدرت بمواقفها وسلوكياتها السياسية في محيطها العربي والإسلامي كافة المشهد الفلسطيني، وأقصت إلى الظل ليس السلطة المعترف، بل ومهمشة كافة الفصائل الأخرى، وحشرها في زاوية ضيقة بين مطرقة «الخيانة» وسندان لافتة «المقاومة».
وهذه هي آفة أيديولوجية الإسلام السياسي الإخواني، إذ يختزل الوطن في الأيديولوجيا الضيقة، يحشر المجتمع الفلسطيني بكل تنوعه قسراً في ماعونة الضيق ويفرض خياراته العدمية على الجميع.
كان هذا خطأً إستراتيجياً يقارب الخطيئة، إذ جعل من قطاع غزة ورقة انتخابية تتناقلها أيدي قادة الأحزاب الإسرائيلية، والمعركة الأخيرة خير شاهد على هذا العبث.
منذ حرب 2014م كان زعماء اليمين الإسرائيلي منافسو بنيامين نتنياهو يشنون حملة للانتخابات المقبلة، بسبب انقلابهم على رئيس الوزراء بشكل مكشوف، واللافتة التي كانوا يرفعونها هي أنه لم يتخذ إجراءات أشد صرامة ضد حماس، وأفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية اليميني المتطرف، كان هو من قاد الدعوة إلى إعادة احتلال غزة، وهي المهمة التي يعتقد أغلب المحللين الأمنيين ونتنياهو نفسه، أنها ستكون مصحوبة بمخاطر لا يمكن القبول بها، وقد دعا نفتالي بينيت إلى وضع نهاية لمحادثات الهدنة مع حماس، وكان من بين الوزراء الذين قيل إنهم طالبوا بإجراء تصويت يجريه المستشارون الأمنيون التابعون للدائرة الأمنية الداخلية لنتنياهو، حول اقتراح وقف إطلاق النار.
إذن فإن حرب نتنياهو في غزة كانت معركة في سياق حملته الانتخابية المرتقبة آنذاك.
فقد ظلت حماس تقدم الدعم لنتنياهو واليمين المتطرف لتهويد كامل فلسطين
النتيجة في الأفق حتى الآن: طوفان الأقصى يهدد الآن بتجريف قطاع غزة، وسيمتد تأثيره الكارثي المدمر ليشمل كل الأراضي الفلسطينية المعترف بها في المواثيق الدولية بعد قرار التقسيم.
صرّح سفير مصر السابق لدى إسرائيل حازم خيرت، أن القيادة الإسرائيلية أصبحت فاقدة للتوازن بصورة تمنعها من السيطرة على ردود أفعالها ولا يجب الاستهانة بالتهديدات التي تطلقها حول اجتياح مدينة رفح الفلسطينية. كما صرح متان كاهانا عضو حزب «معسكر الدولة»، بأن المسجد الأقصى برميل بارود وأي تصريحات سلبية من شأنها أن تشعل الأوضاع في مدينة القدس. في ظل استمرار الحرب في قطاع غزة، تشهد الضفة الغربية عمليات استيطان واسعة تبنى خلالها البيوت للمستوطنين، وفي الوقت ذاته، تواصل إسرائيل هدم البيوت للفلسطينيين بحجة بنائها من دون ترخيص.
تداعيات طوفان الأقصى لم تتضح أبعادها بعد. فماذا لدى حماس من أوراق سياسية لتحقق الحد الأدنى من أهدافها من هذه العملية، إن لم نقل الحد الأدنى من خسائر كامل القضية الفلسطينية؟
خطأ حماس يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني الذي يُقتل وتدمر منازله وبنيته التحتية فيخسر الخدمات الأولية للحياة كل مرة، ومع كل فشل مغامرة لهذه المقاومات يخسر المزيد من أراضيه التي تستولي عليها إسرائيل وتقيم المزيد من المستوطنات عليها دون أن تحقق للشعب الفلسطيني أي مصلحة أو عودة حق.